"واها يا سنّ التاسعة عشرة! إنّك نار تضطرم.. ولهب يندلع. إنّك تبُثّين الحياة والأنوثة فى الأحجار والمياه والألوان. إنّك لتعشقين الأوهام والأخيلة وتخالين الأحلام حقائق واقعة.. وتصلين ابنك عذاب الجحيم!" (بتصرُف)
- عبثُ الأقدار، نجيب محفوظ.
وها هو ذا قد حقق هُدنة عاطفية لقلبه الحائر.
بتلك الكلمات أنهيتُ تدوينتى السابقة. ويا لعظيم أسفى حينما أدركتُ أن هُدنتى تلك قد انتهت هى الأُخرى بمجرد انتهائى من تدوين خبرها. فشل كاتب أراد حشو الفراغ بين عباراته بما يُطرب قراؤه أو ربما تفاؤل متصوف ساذج مبتدىء ظن أنه يمكنه ترويض قلبه. قد يكون هذان السببان ما دفعنى إلى كتابة تلك العبارة الخاطئة. فلم تكُن لا هُدنة ولا يحزنون. فأنّى لحديثى مع ذاتى أن يُسفر عن حل من أى نوع لأزمة تتوقف بالأساس على ذاتٍ أُخرى بخارجنا؟!
لم تكن حالة هُدنة إذاً, ولكنها كانت حالة من المكاشفة والمواجهة لهذا الشعور الغريب الطارد للسعادة, الداعى للألم والمُنغص للحياة. وقفة مع الذات للسؤال: هو فى إيه؟!
"حقاً إنّ الحُبّ شىء عظيم، عرف (ددف) الفنّ والحكمة والسيف. أم الحُبّ فهذا لغزٌ جديد."
- عبث الأقدار، نجيب محفوظ.
ساعتان أو يزيد فى ليلة باردة من ليالى الربيع، أهيمُ فى شوارع حيّنا وحدائقه الفسيحة. أجلس لأتأمل حركة السيارات القليلة العابرة فيما يذكرنى بقُدسية حركة الزمن واستمرارية الحياة. ثُم أجيب عن سؤالى لذاتى، إنها امرأة. تُجيبنى ذاتى فى استخفاف: وما الجديد فى امرأة؟ الجديد هو الحُبّ. يتحول استخفاف ذاتى إلى استنكار عندما تسألنى، وما هو الحُبّ أصلاً؟
تسألنى ما هو الحُبّ... للوهلة الأولى تطنّ "هابانيرا" من كارمن فى رأسى وأتذكر:
L'amour est un oiseau rebelle الحُبّ طائر ثائر
Que nul ne peut apprivoiser لا يُمكن لأحد أن يروضّه
L'amour est l'enfant de Bohême, الحُبّ طفلٌ غجّرى
Il n'a jamais, jamais connu de loi لم يعرف القانون أبداً
لم تؤثر ذكرى كارمن إلا موسيقياً من خلال وضع الخلفية الموسيقية لتفكيرى فى الحُبّ. فإنى لا أجرؤ أن أخاطب ذاتى شديدة الواقعية بما كتبه شخص رومانسى حالم كـ (بيزيه). كان على أن أفكر ملياً كى أجد ما يمكننى أن أواجه ذاتى به. ونظراً للمناخ الخصب الذى أحطتُ نفسى به، إضافة إلى استبطانى لما خلفته سيدة قلبى فى نفسى من خواطر شتى، وجدتُ ضالتى وإجابة سؤال ذاتى.
الحُبّ هو تلك الرغبة العارمة فى أن نتشارك الحياة مع شخص بعينه. الحُبّ هو نتيجة حتمية لتطورنا كبشر.من شىء بسيط أحادى الخلية يورث الحياة ذاتياً، إلى كائنات عبقرية عظيمة لا تورث الحياة فقط وإنما تورث ما هو أعمق من ذلك بكثير من فكر وخيال وفن. ومن ثم احتاجت هذه الكائنات إلى أن تنقسم إلى زوجين مختلفين متكاملين يحمل كل منهما جزء من الوجود الإنسانى، الذى لا يكتمل إلا بلقاء حامليّه. الحُبّ الذى نتحدث عنه إذاً هو، وبحُكم التطور، علاقة بين اثنين فقط. وهو أيضاً مُشاركة فى تحمُل عبء الوجود الإنسانى وأزمة الإنسان فى الوجود. بل إن الحُبّ ، وما يُصاحب محاولات الحصول عليه من متاعب، قد يمنح وجود الإنسان معنى يُساهم فى حل أزمته الوجودية.
يُمكن أن نُحِب أكثر من مرة. فالحياة ما هى إلا القليل من الوقت، ومادام من المُمكن تقسيم الوقت إلى أوقات أصغر، فكذلك يُمكن تقسيم الحياة إلى حيوات أصغر. تلك الحيوات قد نختار أن نتشاركها مع نفس الشخص (نُحبه)، وقد نختار فى جزء منها أن نتشاركه مع شخص ما (نُحبه) وفى جزء آخر مع شخص آخر (نُحبه).
نجحتُ فى إقناع ذاتى وانتزاع استنكارها المؤلِم. فى تعاطُف تلك المرة، سألتنى ذاتى، ما الذى يجعلنا نُحب شخصاً ما دون شخصٍ آخر؟ ولأنى، كما يقولون، صاحب ناب أزرق، فلم يفُتنى أن أصاحب إجابتى لذاتى على هذا السؤال بالكثير من الاستنكار!
إذا ما كُنتَ ستشارك وجود آخر فى حياتك، فكيف لك ألا تُفاضل بين شخص وشخص؟ تختلف الطباع والأفكار والأهواء والاهتمامات ومن ثم الشخصيات. بالتأكيد لا يكفى الجانب البيولوجى لإحداث الحُبّ بين شخصين. ولا يكفى توافُر الصداقة والاهتمامات المُشتركة لإحداث الحُبّ.وإنما يحدُث الحُبّ تجاه شخص يتوافر فيه هذا الخليط العبقرى من الصفات الظاهرة والباطنة التى يتوق إليها كُل منا فى شريكه ويحفظها لا إرادياً فى ذلك المكان أسفل قلبه.
دائماً ما لا نجد الشخص المثالى الذى يتمتع بخليط الصفات العبقرى كاملاً كما هو. ولكننا نقع فى الحُبّ كُلما عثرنا على شخص يقترب من الخليط. لا يعنى ذلك أننا قد لا نتشارك حياتنا على الإطلاق مع أشخاص فى غاية البُعد عن خليطنا المثالى. ولكن كُلما كان الشخص، الذى نشعر بالحُبّ تجاهه، أقرب من هذا الخليط المثالى، كُلما كان الحُبّ أصدق وأقوى، وكُلما كان أعنف وأكثر إيلاماً أو إسعاداً لنا (على حسب ما يُسفِر عنه الحُبّ من لقاء أو جفاء).
"الحُبّ كالموت تسمع عنه كل حين خبراً ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضر. وهو قوة طاغية، يلتهم فريسته، يسلُبه أى قوة دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصُب الجنون فى جوفه حتى يطفح به، إنه العذاب والسرور اللانهائى."
- الحُبّ فوق هضبة الهرم، نجيب محفوظ.
فى تلك اللحظة، كنتُ قد ظفرتُ بالتعاطُف التام من ذاتى تجاه أزمتى العاطفية، ووجدتُ الطريقَ مُمهدةً لكى أحكى عما يعصف بقلبى. من أين أبدأ؟ لأبدأ من حيثُ انتهى الأمر! فكيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة شاركتنى الحديث لساعات طُوال دون ملل، حيثُ كُنا نتحدث فيما يشغل بالينا من أمور السياسة والإقتصاد والموسيقى والأدب والمجتمع. كيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة يشغل بالها ما يشغل بالى من هُراء. كيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة تتطرّق إلى أحاديثها بلسان عذب، بل شديد العذوبة، وإن كنتُ لا أفقهه بعد. كيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة تستأثر بكُلِ تلك الصفات من خليطى العبقرى!
إننى الآن أرسف فى أغلال الحُبّ، هائماً على وجهى فى ظلام الحيرة، لا أدرى أخيرٌ أجنى من وراءِ حُبّى أم خيبة ُ أملٍ. أستمع إلى موسيقى الحُبّ، أستمع لأول مرة لأم كلثوم التى طالما رأيتُ فيها سُخفاً موسيقياً اختفى بمجرد أن أصابنى الحُبّ، وأتغنى بالأشعار وأنا الفيلسوف الكاره للشُعراء، وتُمسك يدى دوماً بكتابٍ يُدعى, The Philosophy of Love.
"قد نضيقُ بالحُبّ إذا وُجِد, ولكن شَدَّ ما نفتقده إذا ذهب."
- السُكرية, نجيب محفوظ.