أكتُب إليكُم وإلى نفسى أولاً بعد سهرة قصيرة على إحدى قهاوى حيِّنا الجميل. ولكى أوضح ما تخلقه لدىّ القهوة من حالة مزاجية أقل ما توصف به أنها طيِّبة، فيكفينى القول أن القهوة مع "الصُحبة الحلوة" تُمثل لى ثانى أفضل مكان يُمكن لى أن أتواجد فيه بجسدى الهزيل. ليس هذا فحسب، فإنى أكتُب اليوم من جوف الليل، وحيداً هادئاً مُتأملاً، كعادتى مع مُدونتى الأثيرة.
ما بين كُرسى البلكونة الوحيد وكراسى القهوة المُتزاحمة.. ما بين ذاتى ورِفاق الصُحبة الحُلوة.. ما بين الفرد والمُجتمع.. ما بينى أنا والناس. هكذا قادتنى تأمُلات الليلة لأن أكتُب مقالى هذا مدفوعة بذلك التغيُر شديد التناقُض والسريع فى ليلتنا هذه من المجموع إلى الوحدة. تغيُر يوقظ بداخل العقل أفكاراً قد تكون مُزعجة، تماماً كما يوقظ التغيُر من الساخن إلى البارد بداخل الجسد ما قد يؤلمه.
لقد كنتُ بل ومازلتُ أيضاً من أشد المؤمنين بمنطق شعرة مُعاوية. وكم كُنت أتمنى أن لو كان هذا المنطق كافياً لإدارة علاقتى كفرد بمن حولى. ولكن وكعادة الواقع، فالأمر أكثر تعقيداً مما قد يبدو عليه. فكم من مرة قاموا بشد الشعرة، ولم يسعُنى سوى أن أشُدها أكثر تمسُكاً بموقفِ أو رأي ارتأيتُ فيه الصواب. وكم من مرة أرخوها، فأرخيتُها ترفُعاً عن وصالِ قد ينتقِص من ما تبقى عِندى من احترامٍ لوجودى وشعورٍ به.
وفى ظل هذا التناقُض الجلِى بين الإيمان بجدوى شىءِ ما والإكثار من القيام بنقيضه فى ذات الوقت، تدور إحدى أكبر المعارك بداخل ذاتى. الصراعُ المُتأجج بينى كإنسانٍ فرد موجود بذاته، وبينى كجُزء من مُجتمعٍ ما، موجود بالموجودات الأُخرى من حوله. أيُهما يُصدِّق على ما أعتنقه من فكر؟ وأيُهما يُقرر ما أنتهجه من مسلك؟ وأيُهما له اليد الطولى فى تصريف شُئون وجودى؟
ظلّت تلك الأسئلة تحوم فى رأسى سنوات مضت، ولا أستبعد أن تستمر فى حومها سنوات أُخرى قادمة. فالأمرُ يبدو مُعقداً للغاية بين ما جُبِلتُ عليه من فطرة الوجود مُمثلةً فى حُبٍ للذات ولحُرية الإيمان والعمل بما يُمليه عليَّ عقلى الفردى، وبين حتمية المُجتمع وما تُمارسه جماعات الموجودات- فى أغلبِها- من إرهاب للفرد وسلب لحُريته وكبت يدفعه لإنكار ذاته وفرديته.
يظهر حجم التعقيد بين خيارّى الفرد والمُجتمع إذا ما وضعنا فى الحُسبان حتمية الاجتماع بالنسبة لوجودى لأسباب لا أُدرك كنهها تحديداً. فأنا لا أستطيع الجزم إذا ما كانت تلك الحتمية ناشئة عن صفة خاصة بى اكتسبتُها أو أنها قد غُرِزت بداخلى بطريقة أو بأُخرى. حتمية أُعايشها، وكحال وجودى تماماً، لا أدرى مغزاها ولا منشأها ولكنى أُدرك فقط أنها موجودة! كُل ما أُدركه أن احتضان تلك الحتمية يجعل مواجهة عبء الوجود أقل سُخفاً مما هو عليه.
ولكن...
علىّ، بل أزعُم أنه على كُلٍ مِنّا أن يختار فى نهاية المطاف. وأكم من لحظات فارقة يوضع فيها المرء فى مفرق الطرق بين الواحد والمجموع بحيثُ لا يستطيع الفكاك من تحديد إجابة قاطعة. وأظُنّى أخيراً قد امتلكتُ إجابة لنفسى قد تبقى دليلاً لى لمُدة قد تطول أو تقصُر أو تعيشُ أبدا.
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
إذا لم يكُن من الاجتماع مفر، وإذا كان المُجتمع حتمية، فلا يسعُنى سوى أن أقول عن تلك الحتمية أنها شرٌ جم، ولكنها شرٌ لابُد منه. وخيرُ ذلك الشر هو المُجتمع الذى يقبل بتلك الرؤية ويحتضنها، فيصون فردية أعضاءه وتفرُّدهم، ويُكبِّل قواه التى ستقهر أفراده بالضرورة مالم تُكبَّل هى.
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
نعم، قُلتُ سابقاً أن الاجتماع يُخفف من عبء الوجود. ولكن أىُّ مُجتمعٍ ذاك الذى قد يمنحنا هذا الأثر الإيجابى؟ قطعاً ليس هو المُجتمع الذى يُحدد لك مُعتقدات بعينها لتعتقد بها، ويُطاردك إذا ما قررت أن تؤمن بغيرها.. ليس هو المُجتمع الذى يُكبِّل أفكارك وما قد تطرحه من جديد غير مألوف.. ليس هو المُجتمع الذى ينهب نتاجَ عملِك كفرد كي لا يُخِّل بكينونته كمُجتمع فشل فى أن يجد إجابة لوجوده دون أن يعتدى على ما لأفراده.. ليس هو المُجتمع الذى يُخبرُك بما عليك أن تفعله بجسدك، بل ويُعاقبك إذا لم تُنصت له. باختصار، ليس هو المُجتمع الذى يفرض مفهومه للفضيلة على أفراده.
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
فأنا الكافر.. أنا الكافر بكُلِ ما تؤمنون به.. أنا الذى يأبى أن يضع القيود على طبيعتِه.. أنا الذى يحتضن جُلَّ شهواته فى بساطة بشرية.. أنا الذى لا يخجل من أن يُمارس الحُبَ على طريقتِه.. أنا من سئمتُ تقديمَ القرابين نفاقاً لمُجتمعِكُم المريض.. أنا من ضاق بفضيلتكُم وتاق لرذيلتِكُم.. أنا من يحلُم بكوابيسِكُم.. أنا شيطانُ جمعكُم البائس.. أنا الذى يرى الوجود كما يحلو له أن يراه!
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى.. أختارُ جمعاً أفضل من الموجودات.. أفضل وإن لم يكُن أكثر.. أختارُ مُجتمعاً ممن اختاروا أنفُسَهُم.
ما بين كُرسى البلكونة الوحيد وكراسى القهوة المُتزاحمة.. ما بين ذاتى ورِفاق الصُحبة الحُلوة.. ما بين الفرد والمُجتمع.. ما بينى أنا والناس. هكذا قادتنى تأمُلات الليلة لأن أكتُب مقالى هذا مدفوعة بذلك التغيُر شديد التناقُض والسريع فى ليلتنا هذه من المجموع إلى الوحدة. تغيُر يوقظ بداخل العقل أفكاراً قد تكون مُزعجة، تماماً كما يوقظ التغيُر من الساخن إلى البارد بداخل الجسد ما قد يؤلمه.
لقد كنتُ بل ومازلتُ أيضاً من أشد المؤمنين بمنطق شعرة مُعاوية. وكم كُنت أتمنى أن لو كان هذا المنطق كافياً لإدارة علاقتى كفرد بمن حولى. ولكن وكعادة الواقع، فالأمر أكثر تعقيداً مما قد يبدو عليه. فكم من مرة قاموا بشد الشعرة، ولم يسعُنى سوى أن أشُدها أكثر تمسُكاً بموقفِ أو رأي ارتأيتُ فيه الصواب. وكم من مرة أرخوها، فأرخيتُها ترفُعاً عن وصالِ قد ينتقِص من ما تبقى عِندى من احترامٍ لوجودى وشعورٍ به.
وفى ظل هذا التناقُض الجلِى بين الإيمان بجدوى شىءِ ما والإكثار من القيام بنقيضه فى ذات الوقت، تدور إحدى أكبر المعارك بداخل ذاتى. الصراعُ المُتأجج بينى كإنسانٍ فرد موجود بذاته، وبينى كجُزء من مُجتمعٍ ما، موجود بالموجودات الأُخرى من حوله. أيُهما يُصدِّق على ما أعتنقه من فكر؟ وأيُهما يُقرر ما أنتهجه من مسلك؟ وأيُهما له اليد الطولى فى تصريف شُئون وجودى؟
ظلّت تلك الأسئلة تحوم فى رأسى سنوات مضت، ولا أستبعد أن تستمر فى حومها سنوات أُخرى قادمة. فالأمرُ يبدو مُعقداً للغاية بين ما جُبِلتُ عليه من فطرة الوجود مُمثلةً فى حُبٍ للذات ولحُرية الإيمان والعمل بما يُمليه عليَّ عقلى الفردى، وبين حتمية المُجتمع وما تُمارسه جماعات الموجودات- فى أغلبِها- من إرهاب للفرد وسلب لحُريته وكبت يدفعه لإنكار ذاته وفرديته.
يظهر حجم التعقيد بين خيارّى الفرد والمُجتمع إذا ما وضعنا فى الحُسبان حتمية الاجتماع بالنسبة لوجودى لأسباب لا أُدرك كنهها تحديداً. فأنا لا أستطيع الجزم إذا ما كانت تلك الحتمية ناشئة عن صفة خاصة بى اكتسبتُها أو أنها قد غُرِزت بداخلى بطريقة أو بأُخرى. حتمية أُعايشها، وكحال وجودى تماماً، لا أدرى مغزاها ولا منشأها ولكنى أُدرك فقط أنها موجودة! كُل ما أُدركه أن احتضان تلك الحتمية يجعل مواجهة عبء الوجود أقل سُخفاً مما هو عليه.
ولكن...
علىّ، بل أزعُم أنه على كُلٍ مِنّا أن يختار فى نهاية المطاف. وأكم من لحظات فارقة يوضع فيها المرء فى مفرق الطرق بين الواحد والمجموع بحيثُ لا يستطيع الفكاك من تحديد إجابة قاطعة. وأظُنّى أخيراً قد امتلكتُ إجابة لنفسى قد تبقى دليلاً لى لمُدة قد تطول أو تقصُر أو تعيشُ أبدا.
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
إذا لم يكُن من الاجتماع مفر، وإذا كان المُجتمع حتمية، فلا يسعُنى سوى أن أقول عن تلك الحتمية أنها شرٌ جم، ولكنها شرٌ لابُد منه. وخيرُ ذلك الشر هو المُجتمع الذى يقبل بتلك الرؤية ويحتضنها، فيصون فردية أعضاءه وتفرُّدهم، ويُكبِّل قواه التى ستقهر أفراده بالضرورة مالم تُكبَّل هى.
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
نعم، قُلتُ سابقاً أن الاجتماع يُخفف من عبء الوجود. ولكن أىُّ مُجتمعٍ ذاك الذى قد يمنحنا هذا الأثر الإيجابى؟ قطعاً ليس هو المُجتمع الذى يُحدد لك مُعتقدات بعينها لتعتقد بها، ويُطاردك إذا ما قررت أن تؤمن بغيرها.. ليس هو المُجتمع الذى يُكبِّل أفكارك وما قد تطرحه من جديد غير مألوف.. ليس هو المُجتمع الذى ينهب نتاجَ عملِك كفرد كي لا يُخِّل بكينونته كمُجتمع فشل فى أن يجد إجابة لوجوده دون أن يعتدى على ما لأفراده.. ليس هو المُجتمع الذى يُخبرُك بما عليك أن تفعله بجسدك، بل ويُعاقبك إذا لم تُنصت له. باختصار، ليس هو المُجتمع الذى يفرض مفهومه للفضيلة على أفراده.
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
فأنا الكافر.. أنا الكافر بكُلِ ما تؤمنون به.. أنا الذى يأبى أن يضع القيود على طبيعتِه.. أنا الذى يحتضن جُلَّ شهواته فى بساطة بشرية.. أنا الذى لا يخجل من أن يُمارس الحُبَ على طريقتِه.. أنا من سئمتُ تقديمَ القرابين نفاقاً لمُجتمعِكُم المريض.. أنا من ضاق بفضيلتكُم وتاق لرذيلتِكُم.. أنا من يحلُم بكوابيسِكُم.. أنا شيطانُ جمعكُم البائس.. أنا الذى يرى الوجود كما يحلو له أن يراه!
أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى.. أختارُ جمعاً أفضل من الموجودات.. أفضل وإن لم يكُن أكثر.. أختارُ مُجتمعاً ممن اختاروا أنفُسَهُم.