Wednesday, August 20, 2014

الرواية العربية الفلسفية بين المطرقة و السندان



لطالما كنتُ شغوفاً بفنون السرد المختلفة منذ أن تعلمت القراءة، ولكن احتلت الرواية القسط الأكبر من هذا الشغف والاهتمام. ومن ثم تجمعت لدى حصيلة ليست بالقليلة نسبياً من الروايات المختلفة العربية منها و العالمية، و إن حظت الرواية العربية بنصيب الأسد فى هذه الحصيلة نظراً لاعتبارات الهُوية والمكان. من خلال تلك الحصيلة، صرتُ أكثر ادراكاً لما يميل إليه ذوقى الأدبى، فوجدت أنه يميل الى نوع من الروايات يخلط بين الفلسفة وقضايا المجتمع المختلفة. وبُحكم اعتبارات تاريخية قادت العالم العربى الى ما هو عليه الآن ثقافيا, فان أحد أهم القضايا الفلسفية الاجتماعية فى هذه المنطقة هى قضية الدين وما تستتبعه من عُقد مجتمعية تُشكل مادة خصبة لأى روائى كى يحبُك قصته حولها. وعلى الرُغم من عُقم بلادنا عن الكثير من أسباب الحضارة والتقدم، فإنها لم تعقم أن تنجب كُتاباً مبدعين مفكرين يتمتعون بالجرأة اللازمة لوخز المجتمع العربى فكريا فى محاولة لإيقاظه من التخاريف المُسيطرة عليه، وقد دفع أولئك المفكرون المبدعون ضريبة شجاعتهم فى رصد الواقع ونقده باهظاً نفيساً وصل فى أحيانٍ عدة إلى دمائهم.

الأمثلة كثيرة لروائيين تعرضوا للأذى بسبب ما يطرحوه من أفكار فى رواياتهم ابتداءا بعبقرية نجيب محفوظ فى أولاد حارتنا التى يقدم فيها نظرة رائعة لعلاقة الدين بالعلم فى العصر الحديث ولأيهُما يجب أن يُحسم الصراع من خلال تحليله لماهية الدين ومقصده بعيداً عن التخاريف والأساطير المسيطرة على المجتمع. ثم يوسف زيدان فى عزازيل حيث يكشف من خلال حبكة درامية قمة فى الإبداع والإمتاع عن تاريخ بديل تهمله المؤسسة الدينية عمدا كيلا تشوه صورة ما تدعو اليه من معتقدات وحتى لا تفقد ما تملكه من نفوذ على عقول البسطاء، حيث يكشف زيدان فى روايته العنف الدينى الذى اقترن بانتشار المسيحية فى مصر والشرق وعدائه للفلسفة والعلم مُمثلاً فى قتل هيباتيا وحرق مكتبة الاسكندرية. ثم أخيراً وليس آخراً، موضوع مقالى، حامد عبدالصمد، الروائى المصرى الشاب فى "وداعاً أيتها السماء".

من خلال مقال نقدى للكاتب محمد عبدالنبى عن الرواية وهو المقال المنشور فى موقع الكتابة الثقافى، نرى فى رواية عبدالصمد عملاً إبداعىاً جليلاً يتناول إحدى أعمق القضايا الفلسفية فى تاريخ الانسانية، و هى القضية الوجودية وعن معنى حياة الانسان. عبدالصمد يقتحم مجالاً خصباً للرواية لم يلجه قبله للأسف الكثير من الروائيين العرب. فالرواية تحكى بشكل أو بآخر عن قصة راويها المثقف المأزوم المُعرًّض لكافة أشكال التناقضات الاجتماعية والفكرية فى مجتمعنا، المُتمثلة فى عدة صور مجتمعية قبيحة بداية من والده إمام المسجد الذى يُحرِم ويلعن ما يقوم هو نفسه باقترافه، مروراً بكافة أشكال العفن الاجتماعى التى يعج بها مجتمعنا و التى لا يسعنى المكان للإسهاب فيها. تبدأ الرواية من سعى الكاتب للهجرة من مجتمع يتمرد عليه، مروراً بعرض أسباب هذا التمرد وبحث فى معضلات الوجود الانسانى وما يقترن بها بالضرورة من تفكير فى تابوهات دينية، انتهاءاً بجنون البطل فى رد فعل ميلودرامى لأزمته الوجودية.

المثير فى أمر "وداعا أيتها السماء" هو الاستقبال السلبى جدا والمُعادى لها فى المجتمع المصرى، خاصة فى السنة الماضية التى رسفت فيها مصر فى أغلال حُكم أصولى متطرف، حيثُ تم تكفير حامدعبدالصمد والأدهى من ذلك تم إهدار دمه لما عرضه من أفكار جريئة فى روايته طبقا لموقع نُصرة الإسلام. مما يُذكرنا بواقعة اغتيال نجيب محفوظ على يد نفس الجماعات المتخلفة. ثم نرى أبو اسحق الحوينى يصفه بالزنديق مضيفا: "ابتُليت هذه الأمة بعقول أبنائها", انتهائاً بمطالبة محمود شعبان، رجُل الدين الأزهرى الوسطى، بقتله على هواء قناة الحافظ الأصولية المتطرفة، انتهائاً بتعرُض عبدالصمد للاختطاف لمدة 3 أيام فى أواخر العام الماضى، وتم انقاذه نظراً لتدخُل السفارة الألمانية، حيث يتمتع عبدالصمد بالجنسية الألمانية بجانب جنسيته المصرية. التأمُل فى "وداعا أيتها السماء" وما تعرض له حامد عبدالصمد وأسلافه العظام من المفكرين المبدعين الروائيين من أذى وعلى رأسهم نجيب محفوظ يدفعنا الى السؤال مرة أخرى: إلى متى يظل المفكر العربى يرسف فى أغلال المتطرفين دينياً؟ ومتى يتحرر الفكر العربى من تخاريف هؤلاء؟
الأديب العالمى نجيب محفوظ يتلقى الرعاية بعد تعرضه لمحاولة اغتيال