فتح عينيه بصعوبة فى هذه المرة، استغرقه الأمر بضع
دقائق من التحديق فى سقف غرفته المتشقق كى ينهض أخيراً من فراشه. لم تكن معاناة الأسبوع والإرهاق السبب وراء ذلك
التكاسُل، فصاحبنا مُكِّد مثابر، انقضت سنون عمره المعدودة فى إيمان صارم بقيمة
العمل والاجتهاد فى الحياة. فى واقع الأمر، كان السبب أعقد من ذلك بكثير-- أعقد من
مجرد إرهاق أسبوعى مُعتاد؛ حيث لم يعد يملك الحماسة الكافية للاستمرار، انطفأت- أو
كادت أن تنطفىء- جذوة إيمانه السابق؛ فقد سيطر عليه هول المنظر الذى رآه البارحة،
والتهم طاقة الحياة بداخله.
لا يُمكنه القعود عن الذهاب اليوم أيضاً، فتغيبه
عن الحضور ليوم آخر قد يُلقى به فى غياهب الضياع والفشل
الذى يمقته. ليس هذا فحسب، بل أيضاً هناك نظرات والدته الحانية العطوف
وابتسامتها التى تُعلق عليه الكثير من الآمال الضائعة. استطاع ذلك المزيج من
الضغوط الأكاديمية والعائلية أن يخرجه فى عُجالة من وطأة همومه الفردية. فأسرع فى
ارتداء ملابسه مُكتفياً بما أضاعه من وقت فى أفكاره التى لا طائل منها-- هكذا حاول
إقناع نفسه كابتاً ما كان يشغل باله.
-1-
"بين
منطوق لم يُقصَد، ومقصود لم يُنطَق، تضيع الكثير من المحبة."
- جُبران خليل جُبران
انطلق يعدو مُسرعاً فى محاولة يائسة ليلحق بحافلة
أخرى تمُر من أمامه لتتوقف ثم ما تلبث أن تكتظ عن آخرها بجحافل من البشر وُجدوا من
العدم أمام باب الحافلة وقفزوا بداخلها فى أجزاء من الثانية، أو هكذا خُيل إليه.
أطلق تنهيدة حارة حملت كل مشاعر السأم والإرهاق التى تملكته فى تلك اللحظة. وقف
ليتأمل الوجوه من حوله، وجوه عابسة ووجوه أُخرى باسمة، ولكنها كلها وجوه تحمل
تصميماً غريباً وإرادة واضحة لبلوغ هدفٍ ما. أحس بشىء من الغُربة، فوجهه لا يحمل
التصميم المُسيطر على من حوله، فهو يحمل ارتباكاً حائراً فى ملامحه بشكل ملحوظ هذا
الصباح.
أيقظته صافرة مزعجة منبعثة من إحدى السيارات مصحوبة بنداء لحوح من
سائق ذى صوت جهورى. أخيراً جاءت حافلة أكبر من سابقتها استطاعت أن تحوى جُلّ من
أطالوا الانتظار فى موقف السيارات، ورغم اتساعها فلم يخلُ الأمر من تدافع الراكبين
تدافعاً جديراً وحده بإثبات النظريات الداروينية عن البقاء. اندفع صاحبنا وراء
الجماهير بالطبع، فلم تعوزه مقومات البقاء، فها هو ذا شابٌ يافع طويل القامة
نحيفها فى السابعة عشرة من عمره يستطيع برشاقة وانسيابية أن يتدافع مع المتدافعين
وأن يتسلل من بين أيديهم ومن خلفهم دون أن يخشى بطش أيديهم من بين يديه ومن خلفه؛
فقد حبته الطبيعة بين ساقيه ما يجنبه ويلات ذلك البطش. لم تكن الطبيعة وحدها من
يفضل صاحبنا ويمنحه ما يحوز به رضا الناس من حوله استناداً إلى ما بين ساقيه، بل
إن ما بين يديه كان له فضل فى ذلك أيضاً؛ فقد كان يتأبط بين ذراعيه معطفاً ناصع
البياض له القدرة على فعل الأعاجيب. بدا ذلك الدور الاستراتيجى الذى يلعبه المعطف
فى بقاء صاحبنا حينما كان يهم كهل أربعينى بلكمه فى معركة التدافع لركوب الحافلة،
ثم توقف فجأة حينما استقرت عيناه على المعطف الأبيض، فتوقف ليتأمله لجزء غير ملحوظ
من الثانية، ثم سرعان ما تراجع عن تسديد لكمته وأنفرجت أساريره وهو يُفسح لصاحبنا الطريق ليصعد للحافلة قائلاً له
فى ود: "اتفضل يا دكتور.. اتفضل يابنى."
لم يسع صاحبنا سوى أن يفتر ثغره عن ابتسامة بينما
كان يحاول أن يسترخى على مقعده المهترىء وهو يُفكر فىما حدث على باب الحافلة وكيف أنقذه
البالطو الأبيض من ويلات الانتظار والتأخُر عن مُحاضرته والأهم من هذا وذاك من لكمة
مؤكدة لا يعلم إلا الله ما قد كانت ستؤدى إليه. كانت هذه هى إحدى اللحظات النادرة
التى يُسعده فيها ما آل إليه مصيره بعد أن سجّل كُلية الطب كرغبة أولى فى أوراق
مكتب التنسيق مُخالفاً بذلك وعوده لصديقة صباه (***) وخططهما لدراسة الموسيقى
العربية معاً. جاء قراره هذا مُباغتاً لها وصادماً، حيث لم تتوقع أن يخلف صاحبنا
ما اتفقا عليه وقت التنفيذ، لا سيما وهى تدرك صدق وحرارة ما كان يحدثها به. ما زاد
الطينة بلّة وقتها هو ما قاله لها فى نبرة مقيتة تدعى الحكمة وبرود أزعجها:
-أنا رجُل.. ومن المنتظر إنى أفتح بيت وأكون مسئول عن أُسرة..والمزيكا ما بتأكلش
عيش.. وكمان والدتى تعبت معايا ومن حقها تفرح بابنها الكبير.
سائها ما قاله أيُما إساءة. فما الذى يعنيه بأنه
رجل وسيصبح مسئولاً عن أسرة؟ هل يعنى أنها كفتاة ستكون عالة على أسرتها ومسئولة من
رجل آخر ومن ثم فلا جناح عليها أن تفعل ما تشاء دون تقدير للعواقب؟ تغاضت عن هذه
الإساءة تقديراً للمشاعر الصادقة التى تجمعهما، وحاولت دون طائل أن تخبره بأن كونه
رجلاً لا يعنى أن يجور على نفسه ويكبت خياراتها وما تهواه، حاولت أن تذكره بإيمانه
أن الحياة الأسرية شراكة بين ندّين متكافئين يتشاركا مسئوليتها معاً لا راع
ورعيته. حاولت دون جدوى أن تخبره بأن ما يقوله عن الموسيقى غير صحيح، وأن النجاح
فى أى مجال مضمون ما توفرت الإرادة لذلك. أخيراً حاولت أن تخبره بأن خياراته ستحدد
حياته هو لا حياة والدته وأنه أياً كان قدر ما بذلته من أجله، فلا يعنى ذلك أن يقضى
حياته فى ظلها وظل خياراتها له.
لم تجد
كلمات (***) طريقها إلى أذن صاحبنا فى ذلك الوقت الذى أعمته مخاوفه من المستقبل
ورغبات والدته التى كان يعلم أنها مُغلفة بالحب الصادق لفلذة كبدها. غير أنه-
إحقاقاً للحق- كان يرى شىئاً كثيراً من الوجاهة فىما قالته صديقته، وكم كان يرغب
فى كثير من الأحيان أن يلتحق بصديقته فى دراستها. حتى أن ذلك الازدواج قد قاده إلى
كثير من الأفكار الخيالية التى كانت ربما تحل مشكلته. فقد تمنى مثلاً ألّو لم يكن
مجتهداً فى دراسته وناجحاً بالقدر الذى يمكنه من دراسة الطب. أو لو كان الموسيقيون
يحظون بنفس الاحترام الذى يحظى به الأطباء فى المُجتمع. أو أن ينقذه العود على
كتفه من لكمات المتدافعين على الحافلات فى الصباح كما أنقذه البالطو مثلاً.
-2-
"هل تظنون أننى أحسب الأيام؟
هُناك يوم واحد فقط مُتبقى، يُكرر نفسه. يُمنح لنا فى الصباح، ويُسلب منّا فى
المساء."
- جان بول سارتر
جاءت رائحة الفورمالين النفاذة مُخرجة صاحبنا من
انغماسه فى أفكاره وذكرياته، ومُنذرة إيّاه بقرب مجىء دوره للنزول، كما ذكرته
بالمنظر المهيب الذى ينتظره. أخذ يفكر أنه اليوم يكمل شهره الأول مُقيداً بسجلات
هذه الكُلية اللعينة، هكذا وصفها فى حديثه مع لا وعيه بينما تلاشت كل أفكاره
الإيجابية عن البالطو الأبيض ومزاياه العديدة، كما فكّر أيضاً أنه اليوم يمضى شهر
كامل على عدم تحدثه إلى (***) بأى شكل منذ حديثهما الأخير الذى افترقت فيه بهما
السُبل. شعر بشىء من الوحشة تجاه هذه الفكرة، عزز هذا الشعور اقترابه من بوابة
كليته التى لم يشعر بالانتماء إليها بعد.
ما أن دخل
حتى لمح على بعد مترات منه جماعة من زملائه فى الشُعبة التى ينتمى إليها. أسرع
الخطى نحوهم، مُبادلاً إياهم التحية. انجرف جمع الشُبان فى حديث مطرد لا يخلو من
ضحك صاخب ونكات بذيئة وغيرها مما تمتاز به أحاديث الشباب عادة، واستمروا فى صخبهم
هذا إلى أن دقت الساعة التاسعة مؤذنة بحلول موعد محاضرتهم الأولى.
خفّ صاحبنا إلى المدرج الثانى حيثُ تعقد محاضرته
الأولى فى الفسيولوجى. وما أن احتل مقعده، حتى بدأ أستاذ المادة فى التحدث مَضمناً
حديثه بسيل من المصطلحات الطبية الأجنبية التى لم يكُن صاحبنا يلقى لها بالاً حقاً
فى أى لحظة من لحظات حياته. فأخذ يفكر فى أن الوقت القصير الذى قضاه فى المزاح مع
زملائه قبل المحاضرة ربما هو "أسعد" أوقات يومه بين جدران كليته. ثم
سرعان ما ذهب عقل صاحبنا إلى عالم آخر بعيد كل البعد عن الفسيولوجى وكل ما يتعلق
بالطب. حيث ذكّره طنين كلمة "أسعد" فى أذنه بكلمة أخرى سحرية من نفس
مصدرها-- السعادة. ألّح عليه السؤال: هل
أنا سعيد؟ بُهِت ولم يعرف كيف يجيب عن سؤاله.. ولكن، ما معنى أن أكون سعيداً؟-
هكذا حدّث نفسه.
حاول أن يتذكر المرّات التى كان يشعر فيها
بالسعادة حقاً، علّه يعرف من خلالها إجابة لأسئلته عن السعادة. كان أول ما طرأ على
ذهنه- حينما طنّت "السعادة" فى رأسه- هو (***) صديقته. تفاجأ بعض
الشىء لهذا الخاطر الذى أتاه، فبالرغم مما يكنه لها صدره من مشاعر حُب صادقة، لم
يلحظ من قبل كيف أن وجودها فى حياته يسبب له قدراً ملحوظاً من السعادة. ملحوظاً
لدرجة أن تطرأ أولاً على ذهنه حين يقرر أن يتذكر معنى السعادة بالنسبة إليه. مرّ
أكثر من شهر منذُ أن تحدثا للمرة الأخيرة قبل أن تفترق بهما السُبل ويدخلان فى طور
من القطيعة الغير مُعلنة بعد أن سائها مخالفته لوعده لها وتحطيمه لأحلامه لحساب
أحلام آخرين ولحساب نظرة ضيقة للمستقبل- على حد قولها-، وسائه سذاجتها ورومانسيتها
الحالمة التى لا تصلح لعالمنا والتى ستدمر مستقبله إن أذعن إليها- على حد قوله-.
كيف لم يتحدث إليها طوال شهر كامل؟ لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر، عليه أن يحدثها.
هكذا قرر أن يكون أول شىء يفعله هذا المساء بعد عودته أن يحدثها ويخبرها عن عمق علاقتهما
وعن أن اختلافهما لا يعنى ألا يبقيا كما هما صديقين مُتحابين.
ارتاح
لهذا الخاطر، ثم عاد إلى تفكيره السابق فىما تعنيه السعادة له، حيث لم تكن محاضرته
انتهت بعد ومازال أستاذ الفسيولوجى منهمكاً فى سرد مصطلحاته الجوفاء. اقتطع ورقة
من دفتره ليدوِّن عليها ما يتوصل إليه فى بحثه عن السعادة ليسلِّى نفسه ريثما
تنتهى المحاضرة. خطّ اسم صديقته (***) على سطر الورقة الأول، ثم وجد نفسه يكتب "العود"
على السطر الثانى.
لم يُمسك بعوده الأثير منذ أن بدأ دراسته
الجامعية-- ذلك العود الذى أهداه إليه خاله (شريف) الذى يعشق الموسيقى وورّث هذا
العشق لابن أخته بهديته إليه فى عيد ميلاده العاشر. لا يجد الوقت الكافى ليتمرن
على تقنيات وأغنيات جديدة، بل الأنكى من ذلك بدا أنه لا يملك حتى الوقت لعزف ما
يعرفه بالفعل. مرة أخرى يبدو بعيداً عن ما يسعده حقاً.
لم تنتهِ
المُحاضرة بعد.. استغرقه الأمر بضع ثوانٍ هذه المرة.. ثم اتسعت حدقتا عينيه وارتفع
حاجباه فيما بدا أنه وجد ما يضيفه لقائمته القصيرة. "النــجـــاح"-
كتبها بحروف عريضة مُتملياً فى كتابتها. إنه يعشق طعم النجاح ولذته، يعشق تقدير من
حواله والانبهار بنجاحه وقدراته فى أعينهم. ربما كان ذلك دافعه الأكبر للكد
والاجتهاد فى دراسته وفى تعلمه للعزف على العود وفى كل ما سعى إليه فى حياته
تقريباً. حين يحصد نتائجاً مبهرة فى دراسته أو حين يعزف مقطوعة جميلة يحبها الناس
بمهارة تثير إعجابهم يشعر بالاكتمال. حتى أثناء دراسته بالعام الأخير من الثانوية
العامة، لم يأل جهداً فى المذاكرة والتحصيل، رغم أنه لم يكن يحتاج مجموعَ الدرجات
الكبير الذى حصل عليه حينما كان يرغب فى دراسة الموسيقى أول الأمر. ولكنه آثر أن
يفعل ما فعله لأنه كان طالباً وكان هذا واجبه ولأنه- وهو الأهم- سيشعر بالنجاح
والتحقق من خلال ذلك النجاح الكبير، ثم أن مجموعه الكبير أثبت فائدته وأهميته
بالنسبة إليه حين غير رأيه وآثر أن يدرس الطب بدلاً من الموسيقى.
اعترى صاحبنا شىءٌ من الشك، هل كان لاجتهاده فى
دراسته والنتيجة المبهرة التى حققها ومكنته من الالتحاق بكلية الطب الأثر الإيجابى
الذى يعتقده. نعم! فها هو ذا يخطف إعجاب الجميع من حوله الذين يلقبونه فى إجلال بـ"الدكتور":
الأقارب والأصدقاء والمعارف والجيران، حتى ذاك الكهل البائس الذى كاد أن يلكمه
صراعاً على مقعد خالى فى حافلة الصباح. والأهم من كل هؤلاء والدته الحنون التى
تبدو كل صباح راضية سعيدة بما ينتظر ابنها الأكبر من مستقبل باهر- على حد
اعتقادها. بدا مسروراً بما قاده إليه حبل أفكاره الأخير. نعم إنه ناجح وهو سعيد
لأنه ناجح وينتظره مستقبل مُبهِر.
هُنا أعلن الأستاذ انتهاء المحاضرة، وهُنا تسرب
إلى قلب صاحبنا الشك فى صحة ادعاء المستقبل المبهر. فأى مستقبل مبهر هذا الذى
ينتظر طبيباً يمل من الطب وينشغل عنه بمحاولات للبحث عن إجابات لأسئلة وجودية
تنتابه باستمرار عن السعادة ومعنى الحياة فى محاضراته؟- هكذا حدّث نفسه. حاول أن
يقمع ثورة الشك بمحاولة إقناع نفسه أنه إنما انشغل عن محاضرته لسماجة أستاذها
وأسلوبه الممل فى العرض والشرح. لم تهدأ ثورة الشك، فقد كان يعلم أنه يمّل من كافة
محاضراته ودراسته للطب بشكل عام. على أية حال، إنه ينطلق الآن إلى محاضرة أخرى
ويمكنه اختبار صحة ادعاءاته فى مقابل شكوكه.
-3-
"أنا لا أخشى الموت؛ فقط
لا أريدُ أن أكون متواجداً عندما يحدُث."
-وودى آلِن
خرج إلى الدهليز الذى يربط قاعات الدراسة، ثم
انحرف تجاه السلم فى نهايته ليهبط إلى الدور الأرضى حيث تقبع المشرحة ليتلقى محاضرته
الثانية فى التشريح. ظهر الكدر على وجهه الطفولى، واستحالت ملامحه الهادئة إلى
خليط من التجهُم والكآبة. فقد أدرك أنه على موعد آخر مع المنظر المفزع الذى رآه
البارحة والذى سرق طاقة الحياة منه. هُنا انتهز الشك الفرصة ليضرب ضربة جديدة: أى
طبيب ناجح هذا الذى يتسمّر عاجزاً أمام منظر الجثث فى المشرحة؟
يصيبه شلل تام عند ذهابه للمشرحة ورؤيته لأشلاء
الموتى وجثثهم المتناثرة مُحنطة بالفورمالين ذى الرائحة النفّاذة. أخبره الجميع
داخل الكُلية وخارجها بأنه شىء طبيعى وأنه سيعتاد بالتدريج على المنظر بعد أسبوع
أو اثنين على الأكثر من دخوله للمشرحة. ولكن ها هو ذا يدخل المشرحة فى أسبوعه
الخامس ومازال يعانى من نفس المشكلة: يقف عاجزاً عن الكلام أو أى فعل آخر، فقط
يحدق فى الموتى أو أجزاء الموتى الساكنة الهادئة الخالية تماماً من كافة أشكال
الحياة.
على غير المُعتاد فى التعامل مع الأشخاص ذوى
العلاقات السلبية بالمشرحة، لم تُثِر حالة صاحبنا موجات الضحك والسُخرية من
الزملاء والمعيدين. فلم يكن يصرخ فى ذعر مثل زميلاته من الفتيات اللاتى يُصبن
بنوبات من الهلع عند رؤية الموتى أو عند غرز أحد المعيدين لمشرطه فى شلو من
الأشلاء الكثيرة المتناثرة. كما لم يكن كزملائه وزميلاته ذوى الحساسية العالية
والذين كانوا يتعرضون لنوبات إغماء فى أسابيعهم الأولى فى المشرحة جراء استنشاقهم
للفورمالين وعدم اعتيادهم عليه بعد.
أبداً، لم يكن كهؤلاء على الاطلاق، بل على العكس
من ذلك: دائماً ما بدا رابط الجأش منتصب القامة يظهر من تحديقه أنه فى كامل وعيه.
علاقته السلبية بالمشرحة تتلخص فى أنه يُصبح بلا روح عند دخوله إليها، تماماً
كالجثث الملقاة أمامه. يغشاه الصمت التام وحين يُطلب منه أن ينفذ شيئاً ما ذا
علاقة بالدرس، ينفذه فى حركات ميكانيكية بآلية شديدة دون أن يتفوه بكلمة واحدة.
لم تثر حالته التلك السُخرية فى أول الأمر، بل
أثارت حالة من الاستنكار للطالب الغريب الذى يفقد روحه ما أن يدخل المشرحة. ولكن
سرعان ما وجدت سُخرية المصريين طريقها إلى حالة صاحبنا، فبعد بضعة أيام، أدرك
زملائه أن حالته تلك مُزمنة، فأطلقوا عليه اسماً يناسب حالته: (الروبوت). وعلى
الرغم من تقدير صاحبنا للفُكاهة وامتلاكه هو نفسه حساً عالياً تجاهها، لم تثر
تعليقات زملائه تلك ضحكه على الإطلاق. بل كان كلما سمعهم يتندرون ينتابه التساؤل:
كيف يمكنهم تجاهل المنظر الرهيب الذى يرونه؟
حينما دخل المشرحة للمرة الأولى بدا مُتحمساً، فهو
سيدرس جثة شخص متوفى لتساعده دراسته تلك فى انقاذ شخص حى. ولكن ما أن واجه جثته
الأولى، حتى تبدل ذلك الحماس إلى نقيضه تماماً. كانت لامرأة فى عقدها الخامس على
حد قول المُعيد- أى فى عمر أُمه تقريباً-. لم تستغرق تلك المقارنة بين والدته وجثة
المرأة التى أمامه أكثر من جزء ضئيل من الثانية
فى عقله، ولكنها فتحت الباب لأفكار وأسئلة مُعذِّبة لا تنتهى بهذا الصدد.
فالمقارنة جعلته يرى أن الموت قريب منه هو أيضاً ومن أحبائه ومن أحلامه وطموحاته
ومستقبله المبهر الذى ينتظره.
فكرة الفناء كادت أن تصيبه بالجنون، فكيف يستحيل
كٌل العناء والحُب الذى نبذله فى الحياة إلى عدم؟ الموسيقى أم الطب؟ العود أم
البالطو؟ آلاتى أم طبيب؟ صديقتى أم والدتى؟ الحاضر السعيد أم المُستقبل
المُبهِر؟.. المُستقبل؟!.. عدم.. لا يُهِم؛ فكله إلى عدم! إلى جُثة هامدة خالية من
الحياة ترقد على ملائة بيضاء مستسلمة لعبث حفنة من المُتحذلقين فى معاطف بيضاء
يدعون أنهم بعبثهم يمكنهم أن يحاربوا العدم..أن يوقفوا الموت.
أضحى ذلك الخيط من الأفكار مُهيمناً على صاحبنا بمجرد
دخوله إلى المشرحة. ومن ثم يصبح مذهولاً عن العالم المُحيط به خالياً من الروح
تقريباً بينما يدافع أفكاره تلك ويراوغها علّه يجد مخرجاً منها ينقذ ما تبقى
بداخله من طاقة الحياة التى تتسرب باستمرار مع دخوله للمشرحة ولقائه وجهاً لوجه
بالموت. نعم، كان يلتقى بالموت فى كل يوم يقضيه بالمشرحة وسط الموتى. ولكنه- ولحسن
طالعه- لم تلتقِ أعينهما من قبل، لم تلتق عينا صاحبنا اليافع ذى السبعة عشر ربيعاً
الغضّة بالحُب والحياة بأعيُن الموت قبل البارحة، وياله من لقاء هاله بفظاعته وأحبط
كافة محاولاته للتشبث بالحياة!
فيوم أمس أخبرهُم مُعيد التشريح بأنهم مُكلفون
اليوم بالتعرُف على تركيب الرأس، ومن ثم فسيسنح لكُل منهم الفرصة لتفحُص رأس إحدى
الجُثث ودراستها. تم توزيعهم على الجثث وأشلاء الرؤوس الموجودة والتى تحمل فوق كل
منها ملصقاً صغيراً بعمر صاحبها وقت وفاته ونوعه. رجُل فى منتصف الثلاثينات- أو
بالأحرى ما تبقى من رجُل فى منتصف الثلاثينات. أخذ صاحبنا يستمع إلى شرح مُعيده
وينفذ ما يطلبه منهم بآليته المعهودة فى المشرحة وهو غارق فى أفكاره عن الموت
ومعنى الحياة المُلهمة بوجوده وسط الموتى.
أخذ يقلب الرأس التى بين يديه كما يفعل المُعيد.
يبدو أن الرجُل الذى بين يديه مات حديثاً، حيث لم يفقد وجهه ملامحه ولم يفعل به
الفورمالين أفاعيله بعد. يمتلك نغازة فى وجنته اليُمنى، تماماً كخاله (شريف).
انزعج لهذا الخاطر وبذل قصارى جهده فى أن يطرده من مخيلته. تابع الفصح والتقليب وهو
يستمع إلى شرح المُعيد، إلى أن التقت عيناه بعينى الجثة. كان الأمر خارجاً تماماً
عن إرادته، ولكنه خُيِّل إليه أن خاله (شريف) هو الذى ينظر إليه لا الجُثة الميتة،
حيث كان خاله فى نفس العُمر تقريباً، كما تشابه فى كثير من ملامحه مع ملامح الجُثة،
أو هكذا تخيّل صاحبنا.
على قدر
كآبة الموقف، لم يكن هذا- تخيله للفناء يكتنف شخصاً يحبه- هو ما أفزع صاحبنا
والتهم طاقة الحياة بداخله، بل ما أفزعه حقاً كانت النظرة التى وجدها فى عينى
الجُثة. كانت تشبه إحدى نظرات خاله وصديقه العزيز (شريف)، ولكنها كانت خالية من
أية مشاعر سواء بالعطف أو الحُب أو الإعجاب أو الأبوة أو الصداقة تلك التى اعتاد
عليها من نظرات خاله، كانت خالية من أى شىء، كانت مُمتلئة بالخواء. الخواء الذى
جعله يدرك أنه لم يكن ينظر إلى عينى وجه مألوف، بل كان ينظر مباشرة إلى الموت وكان
الموت ينظر إليه أيضاً.
فى ذلك اليوم عاد إلى بيته وقد انطبعت نظرة الموت
إليه على ذاته، ففقد شيئاً كثيراً من طاقة الحياة وكُلَ بهجتها. ثم استغرقته
حاجاته اليومية ونشاطاته، فنسى أو تناسى ما رآه من خواء وأكمل حياته بقلب نصف حى
وعقل حائر.
أما اليوم، فقد دخّل إلى المشرحة عازماً على أن
يطرد كافة الأفكار "السيئة"- هكذا وصفها فى عقله- التى تنتابه كلما يدخل
إليها. كانت رائحة الفورمالين قوية على غير العادة، ما يشى بقدوم جثث جديدة إلى
المشرحة مازلت تحمل عبق السائل اللعين الذى نُقعِت فيه. أعطاهم أحد المُعيدين
كمامات عند دخولهم مُحذراً إياهم من الرائحة النفاذة المنتشرة لقدوم جُثث جديدة
مؤكداً استنتاج صاحبنا.
دفعه فضوله الغريزى تجاه وجوه الموتى وهُوياتهم-
الذى نما بداخله بمرور الوقت- إلى أن يهرع ليتحقق من الوجوه الجديدة: رجلٌ كهل فى
الخمسين من عمره.. سيدة مُسنة جاوزت السبعين..جُثة مُهشمة لشاب فى أواخر عقده الثالث، يبدو أنه قضا نحبه
فى حادثة ما.. فتاة طويلة نحيلة فى الثامنة عشر من عُمرها لازال وجهها
محتفظاً بملامحه الحلوة-- أجفل صاحبنا
مبتعداً فى سرعة عن تلك الجُثة ثم أكمل.. طفل ضئيل الحجم لم يكمل عقده الأول بعد- يا
إلهى، حتى الأطفال.. ثم أخيراً، جثة فتى فى عامه السابع عشر بدا وجهه- رغم الموت-
باسماً بشكل واضح.
كان ليجفل من الاقتراب من تلك الجثة كما هو الحال
مع أخرى سبقتها، ولكن السعادة البادية على وجه الشاب (جثته) أغرت فضوله، فاقترب
منه وخالف وعوده لنفسه بألا يمعن النظر فى وجوه الموتى كيلا يصيبه ما أصابه من
قبل. ولكن فضوله كان أقوى ونظّر. عاودته أفكاره السالبة لطاقة الحياة عن العدم،
فقد خدعه الوجه الباسم ومنّاه كذباً برؤية شىء مختلف. ولكنه لم ير سوى الخواء مرة
أخرى يطل من عيني الشاب. أطل الموت برأسه من خلال عينيه وحدّق فى صاحبنا فى تحدى.
كان صاحبنا فى غُمرة فضوله قد نسى ارتداء كمامته،
فأدركه الفورمالين وتغلغل فى أحشائه. أحس بأثره الخانق يُكبل صدره، و ناوبه شعور بالغثيان. لاحظه أحد
المعيدين، فأخبره مؤنباً أن يذهب ليغسل وجهه وليستريح قليلاً خارج المشرحة حتى
يهدأ صدره ويزول أثر استنشاقه للغاز. فعل صاحبنا ما أُخبِر به، وانتابه شىء من
الارتياح لخروجه من وكر الموت. مشى مُتثاقلاً فى بُطء إلى أن وصل إلى الممر المؤدى
لدورة المياه، وعندها بدأ يترنح فى سيره إلى أن سقط أخيراً على أحد جانبى الممر مغشياً
عليه.
-4-
"لن تحيا أبداً؛ ما دمتَ
تبحث عن معنى للحياة"
-ألبير كامو
استيقظ صاحبنا ليجد المساء قد حل وأسدل الليل
ستاره على الكون. لم يكُن فى الجامعة، كما لم يكن فى منزله أيضاً، لم يكن فى إحدى
المستشفيات كما قد يكون الحال لشخص أصيب بنوبة إغماء. فى واقع الأمر، لم يكن فى أى
مكان مألوف أو يعرفه من قبل. كان مستلقياً على ظهره على إحدى شواطىء الرمال
الناعمة القابعة أمام بحر هائج. انتصب قائماً مُنفضاً الرمال عن ظهره وشعره. كان
لا يزال فى نفس ملابسه التى ارتداها هذا الصباح، ما اعتبره علامة جيدة لأنها
مألوفة. شعر بالوحشة فأخذ يتلفت حوله مُتلمساً الصحبة التى قد تزيل وحشته. لا شىء
على يمينه أو يساره. التفت خلفه، فوجد جمعاً من البشر من كافة الألوان والأعراق فى
أردية ناصعة البياض يفترشون مجموعة من الصخور المتناثرة فى حلقة كبيرة يتوسطها
صخرة كبيرة مُميزة يفترشها رجل فارع الطول، مهيب الطلعة، كثيف الشعر، كان وحده
مُتشحاً بالسواد من أعلاه حتى أخمص قدميه ولا ينظر فى اتجاه صاحبنا، بل ينظر إلى الجانب
الآخر من الشاطىء.
مشى
صاحبنا فى جمع البشر وسُرعان ما أدرك أنه على جزيرة خالية من كل شىء إلا الرمال
والصخور؛ فقد رأى البحر الهائج على الجانب الآخر أيضاً. ما أن اقترب من الصخور حتى
بدأ يسأل الجالسين: " ما هذا المكان؟ أين أنا؟ من أنتم؟ ماذا تفعلون
هنا؟"، ولكنه لم يتلق سوى الصمت والنظرات المليئة بالخواء، الخواء الذى رآه
فى عينى شبيه خاله البارحة فى المشرحة. راعه ما رأى، هل أنهى الفورمالين حياته؟
التهمه الفناء؟ هل يملأ الخواء عينيه هو الآخر؟
=أيُها الشاب الغريب!
أنقذه صوت بعيد عنه قريب من العملاق المتشح
بالسواد من حيرته ووحشته، فأسرع ناحيته. لم يكن سوى شبيه خاله الذى رأى من خلال
عينيه الموت البارحة. لم يكن يفضل أن يتحدث إليه بالنظر إلى ما سببه له من بؤس
البارحة، ولكن بما أنه وحيد فى هذا المكان وربما يكون ميتاً هو الآخر، فلا خيار
لديه.
- إنى أتذكرك، ألست الرجل الذى رأيته البارحة فى
المشرحة؟ هل مت أنا أيضاً؟
=نعم، هو أنا. صدقنى لا أعرف إن كُنتَ ميتاً أنت الآخر.. لا نعرف الكثير هُنا على
أى حال. ولكن بما أنك هُنا.. ولكنك لا تُشبهنا.. لا أعرف.. رُبما يُمكننى أن أجيبك
على بعض أسئلتك الأخرى.
-نعم، من فضلك. سأكون شاكراً لك.
=يسوقنا الموت إلى هذا المكان بعد أن يلتهم حيواتنا. أمّا عن كنه هذا المكان وما
هو بالتحديد، لا أظن أن أحداً يعرف، ولاحتى الموت نفسه.
-الموت نفسه؟!
=نعم، ألا تراه؟ إنه الرجل القابع على تلك الصخرة الكبيرة. ما أن يسوقنا إلى هنا
حتى يغرق فى صمته والنظر إلى البحر.
-هذا هو الموت؟ أظننى سأذهب إليه، فلدى الكثير من الأسئلة له. ولكن أخبرنى قبل أن
أذهب، ماذا يحدث لكم بعد هذا المكان؟
=لا أعرف. فقد جئت حديثاً إلى هنا. لا أظن أحداً يعرف، حتى أوائل الموتى وأقدمهم
القريبين من الشاطىء لا يعرفون.
التفت العملاق المتشح بالسواد إليهما أخيراً. بدا
كأنه أفاق لتوه من انشغاله بأمر هام، كما بدت على وجهه أمارات الانزعاج من قطع
حديثهما لتركيزه الصامت. ارتسمت على ملامحه المتجهمة علامات الغضب الشديد وهو
يُخاطب الرجل الميت:
"ماذا فعلت؟! لا ينبغى للموتى أن يخاطبوا الأحياء!". انتاب صاحبنا
الارتياح لكونه مازال حياً طبقاً لكلام الموت. ولكن صاحبه الميت بدا عندئذ فى رُعب
شديد والتقت عيناه بعينى الموت، وعندها امتلأت عيناه بالخواء هو الآخر كباقى
الموتى. أشاح العملاق بوجهه عائداً لوضعه الأول مرة أخرى متأملاً البحر متجاهلاً
وجود صاحبنا تماماً. حاول صاحبنا أن يتحقق مما حدث للرجل الميت بسؤاله عن حاله
وعمّا إذا كان بخير. شعر بعبثية سؤاله ذلك لرجل ميت. على أية حال، أضحى الرجل هو
الآخر كباقى الموتى الغارقين فى الصمت والنظرات الخاوية الذين لم يردوا على أى من
أسئلة صاحبنا.
عاوده الشعور بالوحشة، ثم تذكر أن عليه أن يحدث
الموت فى كل ما شغله الفترة الأخيرة. تحرك تجاه الصخرة الكُبرى، وفى طريقه رأى
وجوهاً مألوفة: الكهل والمُسنة والشاب والفتاة الجميلة والطفل البرىء وأخيراً
الفتى اليافع. على عكس شبيه خاله، لم يتعرفوا عليه وبالطبع لم ينادونه. يبدو أنه
لم يحدق فى أعينهم بالقدر الكافى ليتذكروه. وصل أخيراً إلى الصخرة:
-يقولون أنك الموت.
التفت العملاق المتشح بالسواد إلى صاحبنا مرة أخرى
كأنما أفاق لتوه من غيبوبة. تأمل صاحبنا وجهه لأول مرة عن قرب. لم يكن بالبشاعة
التى تخيلها. كانت ملامحه فقط متجهمة بعض الشىء، ما يعدو أمر طبيعى بالنظر إلى
طبيعة عمله. لفت نظره أن الموت يحمل فى ملامحه نفس الارتباك الحائر الذى كان على وجهه
هو هذا الصباح فى موقف السيارات. ثم جاء صوته عميقاً أجش:
=نعم، أنا
هو. أنا الموت. ماذا تريد؟ لم يحن وقتك بعد.
-آه.. أعرف ولكن بما أنه سنحت لى مُقابلتك، فكرت أن أطرح عليك بعضاً من الأسئلة
المُحيرة التى تعذبنى منذ بدأت أرتاد المشرحة.
=إنه أنت! فتى المشرحة الذى يحدق فى عالمى من خلال عيون ضحاياى! كيف لم أعرفك؟
أعذرنى إنه عالم كبير كما تعرف وشخص مثلي كما قد تتصور يقابل مئات، بل آلاف الوجوه
يومياً.
-بالطبع، أستطيع أن أتصور ذلك. والآن هلّا أجبتنى عن أسئلتى؟
=لا مانع لدى. إذا ما كنت أمتلك إجابات لها بالطبع. لقد استبد بىّ الملل من حياتى
اليومية الرتيبة على أية حال.
-الملل؟ هل تشعر بالملل؟!
=بالطبع؛ أقوم بالعمل نفسه منذ وقت بعيد.. بعيد لدرجة أنى لا أتذكره وإلى وقت لا
أعلم مداه.
-وماذا بعد؟ ماذا يحدث بعد أن تقطف حيوات ضحاياك وتجمعهم حولك وتغرقهم فى صمتك
الموحش وتملأ عيونهم بالخواء؟ هذا ما أردت أن أسألك.
="ماذا بعد؟"، منذ وقت بعيد كنت أُدهش لذلك الهوس الذى يتملككم- أنتم
البشر- بالمستقبل. كان يدهشنى هوسكم بشىء لا تملكونه حقاً، فقط تتخيلون أنكم
تمتلكونه، وتنشغلون به عمّا تملكونه حقاً. كان هذا منذ وقت بعيد، حين كنت قادراً
على الدهشة.. لا أعرف ماذا بعد! ولا يهمنى حقاً أن أعرف.
-ولكن كيف لا تعرف؟!
=لا أعرف. كُل ما أعرفه أنى موجود بإنهائى لحياة كُل حىٍ حينما يحين وقته.
-وما المعنى وراء كل ذلك؟ ما الغاية وراء ما تفعله؟
=المعنى!.. المعنى!.. المعنى! تشغلون
رؤوسكم بما لا يمكنكم إدراكه. تضيعون وقتكم الثمين فى محاولة إيجاد إجابات لأسئلة
لا يستطيع أحد الإجابة عليها، حتى الموت. تتفنون فى اختلاق القصص والأساطير حول
المعنى الذى تنشدونه لحياتكم، وتقيدون حياتكم بالمعانى المُختلَقة. لماذا يجب على
كل شىء موجود أن يكون له معنى؟ لم لا تستطيعون إدراك الحقيقة؟ اللامعنى؟ الخواء؟
ربما حينها تستطيعون الانصراف لأشياء ألطف تقومون بها فى حياتكم القصيرة.
أُخِذَ صاحبنا بما قاله الموت وأطبق عليه الصمت
وبدا أنه يحاول استيعاب ما سمعه للتو. لم يمهله الموت وأضاف فى خُبث:
=أشياء ألطف وأقل عبثاً من محاولة إيقافى مثلاً.
-ماذا تقصد؟
كان صاحبنا قد أدرك ما يرمى إليه الموت، ولكنه آثر التحقق.
أضاف الموت متجاهلاً ما قاله صاحبنا ، وفى شىء من الغيرة وحماس من انتظر كثيراً من
الوقت ليبوح بما يجيش بصدره:
=لماذا لا تدركون روعة وجودكم؟ فبينما أقبع أنا هُنا وحيداً لا أملك سوى عمل واحد
أقوم به إلى الأبد، تملكون أنتم حياة مليئة بالأشياء المُثيرة التى تختارون من
بينها. وجوداً تستطيعون ملئه بالحُب وكافة ألوان السعادة. ولكنكم- كما قلت لك-
تخنقون وجودكم بمعانيكم الخيالية الساذجة له وبهوسِكم بمستقبل لا تملكونه.
-5-
"بلا موسيقى، تُصبح الحياة
غلطة."
-فريدريش نيتشه
أفاق صاحبنا ليجد نفسه فى الممر المؤدى إلى دورة
المياة مُحاطاً بلفيف من زملائه الذين هرعوا لمساعدته. أخبروه أنه فقد الوعى فى
طريقه للتخلص من آثار الفورمالين وأنه أخذ يهذى بكلام غير مفهوم عن الموت والحياة
والحُب والسعادة، وأنهم ما أن أنهوا محاضرتهم فى المشرحة حتى هرعوا إلى نجدته
بعقار طبى منحهم إياه واحد من المعيدين، ثم سرعان ما أفاق بمجرد أن أخذ العقار يسرى مفعوله فى جسده.
شكرهُم صاحبنا بود، ثم قام واقفاً شاعراً بتحسن
ملحوظ بعد أن استعاد عافيته المسلوبة من الغاز اللعين. ذهب إلى المشرحة للمرة
الأخيرة ليُحضر حقيبته التى تركها فيها. انتابته ابتسامة امتنان لا إرادياً بمجرد
دخوله وإلقاءه النظرة الأخيرة على الموتى. كانت المشرحة خالية من الأحياء، فرفع
يديه مُحيياً. أخذ حقيبته فقط تاركاً معطفه الأبيض، ثم أسرع إلى طريق الخروج من
الكُلية. استوقفه زملائه:
=ألن تحضر مُحاضرة الهيستولوجى المتبقية؟
-لا! ليس بعد اليوم!
أجاب صاحبنا فى حماس مُبتسماً ابتسامة أثارت استغراب زملائه.
-6-
"كيف نضجر وللسماء هذه
الزرقة، وللأرض هذه الخضرة، وللورد هذا الشذا، وللقلب هذه القُدرة العجيبة على
الحُبْ. كيف نضجر وفى الدنيا من نُحبهم، ومن نُعجب بهم، ومن يحبوننا، ومن يُعجبون
بنا."
-نجيب محفوظ
رآها فى مقدمة الشارع الذى يقطنان فيه معاً عائدة
من معهد الموسيقى العربية. خروجه مُبكراً اليوم ساعده أخيراً أن يراها بعد طول
غياب. كم تبدو جميلة اليوم-- غمغم صاحبنا لنفسه. كانت تحمل كُتبها على يديها
الرقيقتين بينما تتأبط العود على كتفيها. بدا أنها تعانى صعوبة فى وضعها هذا، فقد
كانت تسير ببطء. خفّ إليها مُسرعاً:
-***!
التفتت إليه مُبتسمة فى سعادة لسماع صوته بعد انقطاع طال أكثر من اللازم، ثم سرعان
ما زمّت شفتيها وأظهرت التجهُم لعدم صفحها عمّا حدث بينهما فى لقائهما الأخير. لم
يمنحها صاحبنا الوقت لترده، فأسرع بحركة بهلوانية تعلمها من باليه (دون كيخوته)
الذى رأياه معاً فى الصيف الماضى مُقلداً دون كيخوته فى أحد أحلامه بمحبوبته
دولسينيا: انحنى أمامها ثانياً رُكبتيه، ثم أمسك بيدها اليُمنى الخالية من الكُتب
ولثمها قائلاً:
-أرجوكى سامحينى.. على كُل شىء.. أنا أُحبُكِ!
تضرجت وجنتاها بالاحمرار. اعتدل صاحبنا، ثم أسرع
إلى تحريرها من العود الذى أثقل كاهلها. أمسك به فى شىء من الحنين، ثم اتسعت عيناه
كأنه تذكر شيئاً هاماً لتوه. افتر ثغره عن ابتسامة واسعة وهو يخبرها بقراره
الأخير:
-لقد قررت أن أذهب معكى غدأ لأقدم أوراقى فى المعهد!
ابتسمت بدورها وهى تسأله بريبة:
=ولكن انتظر، ما سر هذا التغيُر؟
أجابها بعفوية:
-آه.. لقد قابلت الموت.
ضحكت ضحكتها الحلوة التى يعشقها صاحبنا ظناً منها أنه يهذى بإحدى أفكاره المجنونة
التى اعتادت أن تسمعها منه. فكرت كم أنها اشتاقت لسماع تخاريفه، وأشتاقت أكثر لأن
يلعبا موسيقاهمها المُفضلة سوياً.
كأنه يقرأ أفكارها- وكما ينبغى لعاشقين- أخبرها:
-لماذا لا نذهب إلى الحديقة القريبة لنُغنى إحدى أدوار الشيخ سيد؟ لقد اشتقت
كثيراً للعود، ولغنائنا معاً. هيا! لازال الوقت مبكراً على العودة إلى المنزل.
دخلا معاً إلى الحديقة واستقرا فى بقعتهما المفضلة بها. أخرج صاحبنا العود من حقيبته.
أخذ يتحسسه فى رفق. اختبر بعض أوتاره ليتأكد من دِقة نغماته، ثم أخذ يدق إحدى
ألحان الشيخ سيد درويش الذى يعشقانه:
قالولي إيه أصل غرامك وليه حبيبك
مش وياك
مين دا اللي حلل هجرانك بكيت وقلت
العشق هلاك
حدش كده قال
ياعيني ع اللي عشق واحتار وقضى طول
عمره في أفكار
ياخدوه قوام م الدار للنار
ماينجدوش إلا الستار
حدش كده قال
تمت.