Monday, January 5, 2015

بلد شهادات: لماذا تفوقت الجامعة الأمريكية فى القاهرة على جامعة القاهرة؟


منذ بضعة أيام بدأت مدينة زويل للعلوم و التكنولوجيا نشاطها الأكاديمى. الحقيقة, انى من متابعى أخبار دكتور زويل و كنت متابعا جيدا لمشروعه القومى لمصر بانشاء صرح أكاديمى فعال فى مصر يعمل على علاج عجز مصر عن توفير تعليم جامعى حقيقى و القيام ببحث علمى معقول خاصة ان البحث العلمى و وجود مؤسسات أكاديمية فاعلة هو أبرز مقومات أى دولة فى عصر العلم الذى نعيش فيه. أثار الخبر اهتمامى لا سيما بعد أن قوجئت بأحد أصدقائى المقربين يخبرنى بأنه تم قبوله ليكون ضمن أول دفعة من طلاب جامعة زويل. أخبرنى صديقى ان دفعهتهم الأولى مكونة من 300 طالب تم اختيارهم على مرحلتين. المرحلة الأولى تمت بتصفية آلاف المتقديمن الى ألف واحدة بناءا على مجموع النقاط التى أحرزوها فى الثانوية العامة, ثم تم اجراء اختبارات على مستوى عالى لتصفية هذه الألف الى أفضل 300 طالب متقدم. "فى البداية كان سيتم فحص الحالة المالية لكل طالب لتحديد ما اذا كان سيتلقى منحة كاملة للدراسة بالجامعة أو سيضطر لدفع جزء من المصروفات أو المصروفات كلها, و لكن لأنها  الدفعة الأولى فقد تقرر اعفاء كل الطلاب من مصاريف الدراسة". بينما كنت استمع لكلام صديقى شرد ذهنى لحال جامعة القاهرة, أول جامعة مصرية, و جامعاتنا الحكومية المختلفة التى من المفترض ان تخرج لنا نخبة المجتمع التى تستطيع جر المجتمع للأفضل, بالطبع لم يستطع ذهنى اغفال جامعتى أنا شخصيا, الجامعة الأمريكية, و الجامعات الخاصة التى تقدم خدمة تعليمية متميزة نسببيا و لكن فى 
المقابل تحصل على مقابل مادى مرتفع جدا لا يمكن للأغلبية العظمى من المصريين من الحصول عليه.

السؤال البديهى: "ليه؟". لماذا أصبحت الجامعة الأمريكية أفضل من جامعة القاهرة؟ لماذا لا يحصل الطالب المصرى على تعليم جامعى حقيقى الا بدفع عشرات الآلاف من الجنيهات؟ هل يحصل الأغنياء على التعليم الجامعى لأنهم أغنياء بينما يترك الفقراء ليواجهوا مصيرهم التعس فى الجامعات الحكومية المجانية التى لا تمنحهم سوى الجهل المقنع؟ أين العدالة فى ذلك؟ دعنا من العدالة فهى قيمة مجردة يتجادل البشر فى تعريفها منذ آلاف السنين, دعنا نقول, أين المنفعة  و الصالح العام من هذا؟

يقول أحد أساتذتى, "لو كنت مطرقة, فكل مشكلة بالنسبة لك ستبدو كمسمار". و لأنى أدرس الاقتصاد, فالتعليم الجامعى فى مصر  يبدو لى كالكثير من مشاكل أى مجتمع, مشكلة اقتصادية. فما يحدث فى التعليم الجامعى الحكومى فى مصر هو سوء توزيع للموارد. موارد التعليم الجامعى هى الجامعات نفسها و ما بها من فصول و معامل و أساتذة و غيره من أدوات التعليم, و بينما علينا تسخير تلك الموارد للطالب الأفضل الذى يستطيع استغلالها الاستغلال الأمثل, فاننا نمنحها للجميع بشكل أحمق. و لكن, كيف نُعرِّف هذا "الأفضل"؟ لن أخترع و لن أفتى و أقول رأيى الشخصى, بل دعنى أقتبس من أكاديمى ناجح حاصل على جائزة نوبل عمل طوال حياته فى أنجاح جامعات العالم من كالتك و بيركلى و غيرها, أحمد زويل. الرجل وضع حد أقصى للطلاب الذين يريدهم فى جامعته. لم يعتمد فقط على نتائج التعليم المصرى العقيم, و لكن أيضا اختبارات يراها هو كأكاديمى مناسبة لتحديد الطالب الأفضل الذى سيستطيع الاستفادة من موارد الجامعة الاستغلال الأمثل ثم بحث حالتهم المالية لكى يحدد ما اذا كان سيتم اعفاءهم من نفقات الدراسة أو سيقومون بدفعها اذا كانوا من القادرين.

أما ما يحدث فى جامعاتنا الحكومية فهو الحمق بعينه, بدأ هذا الحمق فى الحدوث و معه بدأ منحنى التعليم الجامعى فى مصر بالانحدار منذ حركة الضباط الأحرار عام 1952 و سيطرة جمال عبدالناصر ذو الطابع اليسارى الرومانسى على الحكم. كان التعليم فى مصر قبل عام 1952 مجانى للمرحلتين الابتدائية  و الثانوية (التعليم الأساسى) أما التعليم الجامعى فقد كان يتطلب ان يقوم الطالب بدفع مصاريف الا اذا كان الطالب ذو كفاءة, عبدالناصر كان يسعى الى العدالة الاجتماعية, و لكنه فى سعيه هذا كان مثل الدب الذى قتل صاحبه. فلكى يرسخ عبدالناصر العقد الاجتماعى الجديد مع المصريين الذى سلبهم من الديموقراطية الليبرالية و الدستور و الحقوق السياسية فى ظل حكومة الوفد, كان عليه ان يمنح شيئا ما فى المقابل. فكانت فوضى الامتيازات الاقتصادية و الاجتماعية دون اعتبار لتبعات هذه الفوضى. من ضمن تلك الامتيازات, كان مجانية التعليم الجامعى, ليس ذلك فقط, بل حفز عبدالناصر المصريين ككل للحصول على شهادات جامعية. فان تكون لديك شهادة جامعية يعنى ان الدولة ستقوم بتوظيفك فى القطاع العام و ستكتسب كفرد مكانة عالية فى المجتمع كخريج جامعة. و من هنا أصبح المصريين ينظرون للتعليم الجامعى كضرورة مثل التعليم الأساسى و أضحى المجتمع يحتقر بشكل مستتر كل ما هو دون التعليم الجامعى. فى البداية بدا الأمر كفكرة جيدة, تخيل االألاف من المصريين ينضمون الى النخبة التى ستدفع بالمجتمع للأفضل, و ما المانع اذا كانت الجامعات ستضع حدا أقصى لعدد الطلاب بها؟ هذا صحيح, و لكن مع الوقت و فى مجتمع مكبوت سياسيا, كانت احدى طرق التنفيث عن الشعب و منحه السعادة لكي لا يتذمر من الأوضاع التى تسوء باستمرار, هو أن تمنح   أبناء المواطن شهادة جامعية تجلب له الفخر فى المجتمع و الاحساس بالانجاز. "أنا كدة أديت رسالتى يا ابنى" أليست هذه الجملة أكليشيه من أكليشيهات المصريين؟ نسمعها حينما ينتهى الابن من تعليمه الجامعى فيشعر أبواه بالرضا و يبدأون فى انتظار "حسن الختام" حيث انهم أهلوه و أعدوه لمواجهة الواقع و الاعتماد على الذات. و بالتالى كان أحد أساليب الديكتاتور المصرى فى ال 60 سنة الأخيرة لاسعاد شعبه و انتزاع الرضا العام عن سياساته التى غالبا ما تترجم لاخفاقات, هو الضغط على الأكاديميين لكى يستزيدوا من سعة الجامعات المصرية متجاهل أن تلك الزيادة فى أعداد الطلاب تؤثر سلبيا على جودة الخدمة التعليمية المقدمة, و لكن ابتلينا فى مصر بحكام ينظرون تحت أرجلهم و من ثم أصبحت مصر المحروسة, "بلد شهادات".
أحد أساليب الديكتاتور المصرى فى ال ٦٠ عاماً الأخيرة لاسعاد شعبه وانتزاع الرضا عن سياساته التى غالباً ما تترجم
إلى اخفاقات، هو الضغط على الأكاديميين لكى يستزيدوا من سعة الجامعات المصرية


بمرور الوقت و تراكم أسباب الزيادة السكانية فى مصر, و كأى مورد اقتصادى لا سيما اذا كانت ادارته غير اقتصادية, مواردنا من التعليم الجامعى تعرضت للاستهلاك المجنون و أصبحت جامعاتنا مرتع لمئات الآلاف من الشباب الغير أكفاء. تخيل أن لدينا فى مصر 2 مليون طالب جامعى, 300 ألف طالب فى جامعة الأزهر و 280 ألف فى جامعة القاهرة و 150 ألف فى جامعة الاسكتدرية ثم...سبعة آلاف طالب فى الجامعة الأمريكية. تحولت الجامعة من مؤسسة أكاديمية تهتم بالتعليم و بالبحث العلمى الى مراكز شباب يقضى فيها الشباب أوقاتهم فى كل شىء الا العلم. أصبحنا نرى مئات الآلاف من خريجى الجامعة الذين لم يحصلوا على شيئا من جامعاتهم الا ورقة لا قيمة لها يسمونها الشهادة تؤهلهم للانضمام لجيوش العاطلين.

تحولت الجامعة من مؤسسةأكاديمية تهتم بالتعليم والبحث العلمى إلى مراكز شباب يقضى
فيها الشباب أوقاتهم فى كُل شىء إلا العلم


ما الحل اذاً؟ الحل هو ادارة مواردنا بشكل اقتصادى.التعليم الأساسى لا غنى عنه لكل المصريين, و لكن التعليم الجامعى هو فقط للأقلية الأفضل من المصريين المؤهلين للحياة الأكاديمية. يجب ان نحطم أسطورة الشهادة الجامعية لكل مواطن. يجب ان يكون هدف التعليم الجامعى المصرى هو الكيف و ليس الكم. اذا قمنا بذلك, فمع الوقت ستصبح الجامعات الحكومية أفضل بكثير من الجامعات الخاصة, و سينجذب الأغنياء لتعليم أبنائهم فى هذه الجامعات. و بهذه الثنائية من الطلبة الأكفأ الذين يستحقون تعليم جامعى و مجانى و الطلبة الأغنى الذين ينالون الفرصة للحصول على تعليم جامعى بما يضيفونه لموارد الجامعة المالية, نكون قد وصلنا لحل معقول للتعليم العالى فى مصر. سيتطلب هذا بالطبع تطوير شهادة التعليم اللأساسى بحيث تكون مؤهلة لدمج الطالب فى سوق العمل المصرى بجانب تطوير التعليم الفنى و الصناعى و التجارى و غيره من أنواع التعليم الغير جامعى و الذى يناسب باقى فئات المجتمع.

 سيستجلب هذا بالطبع غضب شعبى, و لكن هكذا هى أغلب أوضاع مصر السيئة: أخطاء من الماضى, لن تصلح الابحلول قاسية مجتمعيا.