منذُ أن انتقلت إلى مدينة العبور (أى ما يُقارب الثمان سنوات)، انضم المشى إلى قائمتى لمُحفزات التفكير و التأمُل. فشتان ما بين صخب شارع الهرم و عوادم سياراته التى لا تنتهى متدفقة ليل نهار، والعبور الجميلة الجديدة التى لم تُصب بعد بجرعات مؤثرة من الفيروس الحضارى المسمى بالمصريين. حتى أنى أتذكر أنه حينما ذهبت للمرة الأولى إلى أوروبا منذ سنوات، تم تحذيرى بشدة من الاكتئاب ومقارنة الشوارع والنظام والحياة هُنا وهُناك. ولكنى حينما حان موعد عودتى، كُنت شديد الاشتياق للعودة إلى بيتى حيث يقبع هادئاً خلف الشجرات الأربع والحديقة الصغيرة من أمامه، فى شارعه شديد الاتساع. ولم أشعر باكتئاب ولا يحزنون، فأنا لا أعرف من هذا البلد القبيح سوى بيتنا فى حيه الجميل، وأتحاشى بقدر الإمكان أن أهبط إلى مقلب الزبالة الكبير المدعو بالقاهرة.
المُهم يعنى أن حيَّنا يُمثل بيئة خصبة للمشى الفلسفى والتأمُل. فكرتُ مرة أن المشى عندنا يشبه المشى ليلاً على البحر. ولكن بما أنى خبيرٌ بالأمرين، فأستطيع أن أُجزم أن المشى عندنا أحلى نظراً للشعور بالطمأنينة لأأنك فى إطار حدود بيتك، ذلك الشعور بالدفء والأمان النفسى أنك فى مكان تعرفه جيداً ولا تشعُر فيه بالغُربة اطلاقاً. وبالتالى فإن أفضل مكان للمشى الفلسفى هو أن تمشى على البحر حينما يكونُ بيتك بجانبه، وهو ما يُبرر رغبتى منذ زمن أن أستقر فى مدينة ساحلية.
بدأ الموضوع حينما كنتُ أذهب مع جارين صديقين هُم أيضاً من زملاء الدراسة (٣ X ١) إلى المسجد القريب لأداء صلاة العشاء كُل يوم. كان ذلك يُمثل طريقة جيدة للتحايُل على المذاكرة وتضييع الوقت من خلال التسامُر والتمشية لبعض الوقت. وفى الكثير من الأحيان كان صديقىَّ يمتنعان عن الذهاب معى إلى الصلاة، فأجدنى مُتكاسلاً أنا أيضاً عن الذهاب نظراً لغياب الدافع الحقيقى وراء الذهاب إلى الصلاة. ولكن أمام تعليقات ونظرات السيد الوالد المهووس دينياً كأغلب المصريين، كنتُ أجد نفسى مُضطراً إلى الذهاب بدون العيال أصحابى لأداء الصلاة عشان "أنت بتصلى عشان ربنا مش عشان صُحابك يا أحمد".
كوسيلة لإظهار التزمُر والغضب منه، كُنت امتنع عن الذهاب مع أبى فى سيارته وأسلك نفس الطريق الذى أسلكه مع أصدقائى، وأمشى. فى طريق العودة كُنت أتوق إلى من يُسامرنى فى غياب أصدقائى، فلم أجد سوى نفسى أُحادثها. وكنتُ قد أعتدت حديث النفس قبلها، حيث أحادث نفسى كل ليلة مستشيراً إياها فى شئون ما ينتظرنا فى الغد. وبالتالى فلم يكن غريباً عليا أن أُحدث نفسى وأُفكر بصوت عالى معها ونحن نمشى فى الليل عائدين إلى المنزل.
كُنا نتكلم فى كُل شىء، فكر وفلسفة وسياسة ومجتمع ومُستقبل ينتظرنا وعلاقات اجتماعية مضطربة وعلاقات عاطفية أكثر اضطراباً. كُنا نحلل معاً كتاب حلو قريناه أو سبب حُبنا لأغنية ما أو نناقش أكثر ما يجذبنا فى المرأة. أى باختصار وكما قلتُ فى البداية: كُل شىء! وكانت تلك الأُمسيات مُثمرة جداً على الجانب الفكرى. كما أنها كانت السبب أيضاً فى حل الكثير من المشكلات التى نوقشت خلالها. كان من الطبيعى إذاً أن أُدمن ذلك المشى الفلسفى، خاصةً وقد أثبت براعته كمُسكن لأزماتى الوجودية المُتكررة التى لا ترحم. فكم من مرة ساهم المشى لساعة فى الليل فى إحداث توافق وسلام نفسى يُهىء لصُنع دستور وجودى لذاتى يُبين لها إتجاهاً للاستمرار.
استمر الموضوع معى ولكنه تطور ليُصبح حديثاً لكُل ما هو موجود. فكنتُ أحادث القمر حينما يكون مُطلاً، وكُنت أحادث السماء دائماً لأنها موجودة على طول، ومن خلال السماء كُنت أحادث القوى الإلهية وأُشاركها أفكارى وأحياناً أتوسل إليها أن تمنحنى نجاحاً ما فى حياتى الأكاديمية أو أن تُغدق عليا برضا امرأة جميلة أتوقُ لها. وكانت السماء تُجيب توسلاتى رغم أنى لم أكن أصحُبها برياء أو نفاق ولا تزلُف زائف كما يفعل المتدينون. فدائماً ما كنتُ أتصور علاقتى بالإله كعلاقة تلميذ بمُعلمه لا عبد بسيده، فهو الوجود الأول والوجود الأعظم وأنا الوجود الضائع التائه الذى يستمد معنى لوجوده من وجود إلهه.
المُهم أننى ازددتُ تمسُكاً بعادتى فى المشى الفلسفى، خاصة وبعد أن أخبرتنى صديقة مستها نفس لسعة الجنون التى مستنى من قبل بأن ما أفعله يُشبه ما كان يفعله أرسطو وتلاميذه. فقد كانت عادة أرسطو أن يمشى وهو يحاضر تلاميذه وبالطبع كانوا يمشون ورائه فى أروقة الأكاديمية، ومن هُنا جائت تسمية مدرسة تلاميذ أرسطو فى الفلسفة بمدرسة المشَّائين- Peripatetic School.
أرسطو! إنه الحلم! ألفىُ عام من الهيمنة الفكرية!
سياسة واجتماع وعلم نفس وطبيعة وميتافيزيقا وبالطبع فلسفة. الشُكر لكِ أيتُها القوى الإلهية الرحيمة العليمة بما يتوق إليه تلميذُكِ. الشُكر لكِ أن اقتدتيه إلى خيرُ عادة. سيمشى ويمشى ويمشى ويمشى مُتأملاً الوجودَ بكل ما فيه. وها هو ذا قد مشى اليوم فى مُنتصف ليلة يومٍ حار لم تكن (لحُسن الحظ) هى مثله. وها هو ذا قد حققَ سلاماً وجودياً جديداً لوجوده المُعذب وهُدنة عاطفية لقلبه الحائر وسعادةُ هى جُل ما يتوق إليه. وخبرُ ذلك فى تدوينة قادمة إن شائت القوى الإلهية.