تُعد انتفاضة 1977 من أبرز الأحداث التاريخية التى تناولها
الأدب المصرى بشكل عام والروائى تحديداً بالكثير من الاهتمام البادى فى سعة حجم
المخزون الأدبى المتوافر عن تلك الفترة. سعة هذا الحجم أثرت المكتبة العربية بمئات
المشاهد والشخصيات المتنوعة التى تُجسد بصدق مشاعر الغضب العارمة التى انتابت جموع
المصريين فى تلك الحقبة التاريخية الهامة من تاريخنا الحديث. برز هذا التنوع بالأساس
من تنوع صانعى هذه الشخصيات والمشاهد واختلاف خلفياتهم، إضافةً إلى تنوُع من كتبوا
عنهم: أسمائهم، أعمارهم، طبقاتهم الاحتماعية، أعمالهم، محال اقامتهم...إلخ. يظهر
ذلك جلياً فى الروايات الثلاث التى تتناولهم هذه الورقة البحثية: (أوان القطاف)
لمحمود الوردانى، (بيت الياسمين) لإبراهيم عبدالمجيد، وأخيراً (مالك الحزين) رائعة
إبراهيم أصلان. وعلى الرغم من المخزون الأدبى الضخم المتوافر والمتنوع، وعلى عكس
ما قد يطرأ على الذهن للوهلة الأولى، فقد أخفق الأدب الروائى المصرى فى التقاط
الصورة الكاملة لوجدان المجتمع المصرى مُتبنياً منطق العاطفة، بينما نسى أو تناسى
الجانب الآخر من منطق العقل فى التعامل مع الحدث.
يروى
محمود الوردانى أحداث 18 يناير 1977 على لسان (مُصطفى) المُراهق صاحب الأعوام
الخمسة عشر، أو بالأحرى على لسان رأسه المقطوع- فى ابتكار روائى له دلالته
السريالية. تتدفق الأحداث من منظور (مُصطفى) التلميذ ابن الطبقة الوُسطى الدُنيا.
وُلد الوردانى فى حى شُبرا وعاش فى القاهرة، ومن ثم تجرى الأحداث فى شوارع القاهرة
مُنتقلة فى سلاسة من المنيل إلى السيدة زينب وقسم شرطتها إلى الحلمية إلى ميدان
التحرير وعابدين وقصر الرئاسة مُنتهية فى النهاية فى الجيزة حيث يقضى (مُصطفى)
نحبه.
تبدو علاقة (مُصطفى) وصديقيه بالمُظاهرات والشغب سطحية؛ حيث
يقتربون منها لمجرد اللهو عوضاً عن رحلتهم المدرسية الملغية. سُرعان ما تتبدل
السطحية وتتحول إلى مُشاركة فعالة فى أحداث التظاهُر وإن ابتعدت عن مواطن الخطر
فيها. اللافت للنظر فى تصوير الوردانى لمشاركة شخصياته فى التظاهرات هو إظهاره
لاهتراء المنطق الدافع لهم للمشاركة وعبثية مشاركتهم: "فوجدنا طلبة الخديوية الثانوية وسبيل أم عباس
وتجارة الحلمية قد تجمعوا ومضوا يرددون: يا جيهان قولى الحق.. فورد (.....) والا
لأ. ضحكت وأنا أبص عليهم لأجدهم جادين تماماً. بدت الدنيا أمامنا أنا وناجى وعمر
وساعة، وها نحن نستطيع أن نفعل أى شىء. راح كل منا ينظر للآخر، ثم انفجرنا فى
الضحك والتصفيق على، الأكف وانخرطنا نردد فى الهتاف." (أوان القطاف،
19) يُظهِر الاقتباس صُدفة مشاركة التلاميذ فى المظاهرات، وانجرافهم وراء شعاراتها
البذيئة التى يضحكون منها فى أول الأمر- ربما لسخفها ولا معقوليتها- ولكنهم سرعان
ما ينسلون ورائها مرددين شعاراتها بحثاً عن اللهو وهُم ضاحكين فيما يتطابق مع ما يقول
به صاحب سيكولوجية الجماهير. كما يُلقى الاقتباس بظلال الشك على جدية مُشاركة
التلاميذ فى أحداث 1977 ومدى وعيهم الحقيقى بكنه ما يغضبون من أجله.
وفى اقتباس آخر يعرض (مُصطفى) لإحدى دوافعه الباطنة: "أما قسم شرطة السيدة زينب
فقد وصل صيته إلينا فى المنيل، يا ويل من يقترب منه مُجرد اقتراب. حكى لنا زملاء
فى المدرسة ما جرى لمعارفهم من جلد وضرب بل وقتل فى قسم السيدة." (أوان
القطاف، 20) يظهر هُنا الخلط بين قمع وحشى من الشُرطة وحزمة قرارات اصلاح
اقتصادى صعبة بعض الشىء، ما يُدلل مرة أخرى على سطحية دوافع قطاع غير ضئيل من
المُتظاهرين.
أما فيما يتعلق بتصوير أحداث التظاهُر والشغب، فيمكن القول
بأن تصوير الوردانى لها كان فى غاية التفصيل الذى يؤكد على القيمة التأريخية الإيجابية
للأدب. فقد جاء وصفه على درجة عالية من الدقة والاقناع. ربما كان ذلك لدأبه على
إدراج الهتافات المُستخدمة آنذاك كما ظهر فى الاقتباس الأول، بالإضافة إلى تواجد
أبطاله فى العاصمة حيث الحدث مُكبراً أكبر ما يكون مُقارنة بالأقاليم. يظهر ذلك الوصف الدقيق فى مشاهد العُنف
واشتباكات المتظاهرين بالشُرطة:
"فى ذلك اليوم الطويل
كان أشجع ما رأيته هو هؤلاء الذين جعلوا يحاولون تحطيم أبواب قسم السيدة زينب ولم
يخافوا من أى أحد. وعندما اندلع الرصاص من حولنا..." (أوان القطاف،
71)
تبدو جودة الوصف أيضاً فى مشهد
نهب (أوبرج الأهرام) الذى سرعان ما يجلب للأذهان مصطلح (انتفاضة الحرامية):
"استطعت أن ألمح من
بعيد أشباحاً لنسوة ورجال يهرولون حاملين أشياء جعلت تتبدى لى رويداً ونحن نجرى فى
اتجاههم: مقاعد ومناضد ولافتات وصوراً بإطارات ضخمة، وكان البعض يحتضن أوانى
وحللاً ضخمة وأكوبا وكؤساً زجاجية مثل التى نراها فى السينما." (أوان
القطاف، 135)
|
نهب وتخريب الممتلكات العامة والخاصة فى أحداث ١٩٧٧ |
النص الثانى يرصد فيه إبراهيم عبدالمجيد أحداث 18 يناير فى
محيط من العمال فى أحد مصانع الإسكندرية، التجمع الحضرى الأكبر بعد العاصمة. يرجع
ذلك بالتأكيد إلى خلفية عبدالمجيد العُمالية ومولده وحياته بالإسكندرية واللقب الأشهر
له ككاتب الإسكندرية. كسابقتها، (أوان القطاف)، تأتى الأحداث فى (بيت الياسمين) فى
صيغة المُتكلم على لسان (شجرة) العامل بأحد مصانع الاسكندرية. يُعانى (شجرة) من
حالة اغتراب عن الوضع السياسى- وربما الاجتماعى أيضاً- المُحيط به. وعلى الرغم من
اغترابه عن الوضع السياسى، يُشارك (شجرة) فى تظاهرات العُمال، فيما تصفه الباحثة
(نُها رضوان) بأنها مُشاركة ارتجالية غير مسبوقة بأى تخطيط، حتى أن (شجرة) يذكر
أنه لم يكُن يبالى حقاً بزيادة الأسعار. وعلى رغم من ذلك، استمرت مُشاركة (شجرة) فى
المُظاهرة حتى النهاية، حتى أنه شارك فى الرد على هجوم قوات الأمن على المظاهرة. (Radwan, 88)
مشاركة (شجرة) مع جموع العُمال كانت على أساس منطقى غير
سليم، وإن كانت بُناءاً على مشاعر تعاطُف صادقة مع غضب زملائه. ما يُدلل مرة أخرى
على تغليب العاطفة على العقل فى الأدب المتناول لأحداث 1977. يظهر هذا من الاقتباس
الآتى: "لا بُد أن
الحكومة أخطأت بالفعل وهى ترفع أسعار هذا العدد الكبير من السلع. لا يمكن أن يكون
الخطأ عند هذه الحشود المُجيشة." (بيت الياسمين، 43) هُنا يتبدى أن
مشاركة (شجرة) فى التظاهرات جاءت لمجرد اعتقاده بأن الجمع الأكبر من الناس لا يمكن
أن يكون مخطئاً. بينما تؤكد قواعد المنطق أن الصواب والخطأ لا علاقة له بالعدد؛
فالعدد الأكبر من الناس ليس بالضرورة على صواب دائماً.
أما فيما يتعلق بوصف أحداث التظاهُر والشغب، فقد جاء أيضاً
على درجة عالية من التفصيل والدقة كسابقه، مُضيفاً لأدب هذه الحقبة التاريخية
مشاهد الانتفاضة من جانب العُمال خارج العاصمة. كما قدّم أيضاً للأدب صورة الناشط
العُمالى والقيادات العُمالية التى تتولى الحشد ونشر الهتافات. كما أبرز مُشاركة
المرأة على قدم المساواة مع الرجل فى المجتمع الصناعى؛ حينما تتظاهر للحصول على
مزايا اقتصادية حيث أنها تعمل فى المصنع مثل الرجل: "وجدت نفسى يعتصرنى الضغط لأتقدم ناحية (سيد برشو).
لحظات وصار نهر العمال الغاضب يغرق شارع المكس. تعطلت حركة السيارات والترام ونزل
من بها. فُتحِت نوافذ البيوت وأطلت منها نساء وفتيات وأطفال. إنهم يرددون الهتاف.
وأنا أهتف خلف (سيد برشو)."(بيت الياسمين، 43) كما أدرج هو الآخر
العديد من الهتافات والشعارات الشعبية آنذاك فى نهاية نفس الصفحة. لم يُغفل
عبدالمجيد أيضاً تصوير مشاهد التخريب والشغب والعُنف المتبادل بين قوات الأمن والمتظاهرين:
"تطير فى الجو أحجار
ويتمدد الدخان الأزرق وتخترق أمطار حبات الرش المعدنية المنطلقة من بنادق الجنوجد
ثيباً ولحماً... يحترق مطعم نصار ومصطفى درويش ومقهى اللوفر واتينيوس والمونسينور.
من أين أتت كمية الحجارة التى قذفناها فوق الجنود المساكين؟" (بيت الياسمين،
47)
|
خطاب السلطة حذر من التخريب الذى أكد التاريخ الأدبى على حدوثه |
النص الثالث والأخير الذى تتناوله هذه الورقة بالتحليل هو
(مالك الحزين) لإبراهيم أصلان، وهو أحد أهم ما كتب جيل الستينات، ويحتل- النص-
مكاناً بين تصنيف أفضل مائة رواية عربية، كما اُقتبس المُخرج (داود عبدالسيد) عنه
فيلم (الكيت كات)، والذى يعد بدوره أحد علامات السينما المصرية. وكما هو واضح،
تدور الأحداث فى موطن إبراهيم أصلان ومنشأه: (الكيت كات) بـ(إمبابة).
على عكس سابقيِّه، يروى إبراهيم أصلان الأحداث بواسطة راوٍ
عليم بكل شىء، ولكنه يبتكر عدة أنساق خطابية ليصور الأحداث من خلال مجموعة من
شخصياته الروائية فى ما اُعتُبِر تجديد أو ابتكار للدرجة التى دفعت الباحث المغربى
(عبدالفتاح الجحمرى) أن يكتب دراسة مُختصة عن بحث الأنساق الخطابية فى رواية (مالك
الحزين). فى هذه الدراسة عن السارد والصوت السردى فى (مالك الحزين)، يؤكد
(الجحمرى) أن إبراهيم أصلان خلق واقعاً قصصياً غير خاضع للنمط أو النسق المألوف فى
الرواية العربية، ويحاول متعمداً التخلص من كل ما هو نمطى ونسقى ومألوف فى بناء
الرواية العربية بالقواعد المتعارف عليها. (Hajmari, 23) ويمكن رؤية ذلك الذى أثاره (الجحمرى) فى تعدد
الأصوات الروائية بين (الشيخ حُسنى)، و(يوسف النجار)، و(الأسطى قدرى الانجليزى)، و(عم
عُمران). ومع هذا التنوع، يجب التأكيد على أنه- أى التنوع- تم من خلال راوِ عليم
بكل شىء مع اختلاف منظور روايته باختلاف الشخصيات التى يروى من خلالها، إضافة إلى
المونولوجات المنتشرة على لسان (يوسف النجار):
"إمبابة، أيتّها
السيدة الحزينة الفاجرة.. أنت سكران.. كلّا. أنت مجروح." (مالك
الحزين، 163)
تجرى الأحداث فى (الكيت كات) بـ(إمبابة) حيث المنطقة
العشوائية التى لا تشبه (المنيل) حيث تسكن الطبقة الوسطى ولا هى منظمة كمصانع
الاسكندرية حيث يعمل (شجرة). أبطال النص هم سكان المنطقة العشوائية المنتمين إلى
طبقة من المُهمشين، والتى كانت ستعانى القسط الأكبر من المتاعب الاقتصادية جراء
قرارات الاصلاح الاقتصادى التى أقرتها الحكومة عشية الأحداث. ومن ثم يعرض النص
الاشتباكات العنيفة التى جرت فى منطقة (الكيت كات) والعُنف المتبادل بين قوات
الأمن الحاشدة وسُكان المنطقة.
نرى أحداث التظاهر والشغب من
عدة مناظير، أولها منظور (الشيخ حُسنى) الكفيف، فى تجديد ابتكارى لعملية الوصف من
خلال جعلها من وجهة نظر- أو سمع وإحساس فى هذه الحالة- شخصية كفيفة:
"تشمم الهواء وتبين
الرائحة الحادة، وسمع دبيب أقدام بعيدة، وراح يتقدم حتى توقف مرة أخرى. لقد ازدادت
الرائحة الغريبة وحرقت أنفه، وارتفع صوت الأقدام التى تجرى على الأرض الموحلة حتى
اقتربت من خلفه و أوشكت أن تدفعه أماها...حتى تبين وقع أقدام أخرى ثقيلة تضرب بقوة
على إسفلت الميدان..." (مالك الحزين، 155)
المنظورالثانى هو منظور (الأسطى
قدرى) الذى يشارك مع جموع المتجمهرين الذين يتعاونون على صد هجوم قوات الأمن. يخرج الأسطى قدرى للشارع بعد أن استفزّته نظرات
(أم عبده) للخروج مع باقى الرجال:
"وأدرك أنه الخروج أو
االعار وانطلق كالقذيفة إلى الشارع وشمَّ رائحة مثل الشطَّة وهو يندفع مع الأولاد
نحو الميدان...ويرى عساكر الحكومة وهى تطلق النار وتجرى أمام الأحجار التى تلاحقهم
من كل ناحية... وهلوس بكلمات ماكبث..." (مالك الحزين، 157)
ختاماً لهذه الورقة تجدر بنا الإشارة إلى أن تنوع خلفيات
الكُتاب وهُوياتهم هم وشخصياتهم وتنوع طبقاتهم وأنماط علاقاتهم- أى الشخصيات-
بأحداث 1977 لم تغير من كيفية تعامل الأدب المصرى الروائى الحديث مع الأحداث
وإصراره على أخذ الجانب العاطفى إما إيماناً بأفكار بالية غير علمية- وهنا نختلف
مع ما توصلت إليه الباحثة نُها رضوان فى ورقتها المُقتبسة هُنا- أو تزلفاً
للجماهير الغاضبة أو إمعاناً فى احتكار الأدب من جانب النخبة اليسارية الثائرة
دائماً الساخطة على كل شىء. ولم يأخذ أى نص منهم الجانب الآخر حيث العقل والنظريات
العلمية والاقتصادية متناسين أن صانع السياسة الاقتصادية الاصلاحية الصعبة مصرىٌ
هو الآخر. وهُنا يطرأ السؤال: متى ينضُج الأدب فى عالمنا العربى فى معالجته
للقضايا الاقتصادية؟ ومتى تقوم النُخبة المثقفة بدور إيجابى فى إطلاع الجماهير على
الحقائق الصعبة بدلاً من تمسكها بخطاب أدبى عاطفى رومانسى فيما يتعلق بالأوضاع
الاقتصادية والاجتماعية؟
|
الرئيس أنور السادات: عرّاب الإصلاح الاقتصادى فى مصر |
المراجع
إبراهيم أصلان، مالك الحزين، دار الآداب،
بيروت، 1992.
إبراهيم عبد المجيد، بيت الياسمين، الاسكندرية والفجالة، دار ومطابع المستقبل، 1993.
حمدي السكوت،
الرواية العربية، ببلوغرافيا ومدخل نقدي (1865-1995)، القاهرة، قسم النشر بالجامعة
الأمريكية، 2000.
. محمود الورداني، أوان القطاف، القاهرة، دار الهلال، 2002.
Allen, M. D. Ibrahim Abdel Meguid. the House of Jasmine. 87
Vol. University of Oklahoma, 2013. Print.
Ḥajamrī, ʻAbd al-Fattāḥ. Takhayyul Al-hịkāyah: Bahṭh
Fī Al-ansāq Al-khitạb̄īyah Li-riwāyat Mālik
Al-hạzīn Li-Ibrāhīm Asḷān. Cairo: al-Majlis al-Aʻlá lil-Thaqāfah, 1998.
Print.
Hạmmād, Hạsan. Mālik Al-hạzīn: Dirāsah binyawīyah takwīnīyah.
Cairo: H. ̣Hạmmād, 1994. Print.
Johnson, Michelle, and Samia Mehrez. "Literary Cairo: A
Conversation with Samia Mehrez." World
Literature Today 85.6 (2011): 12-5.
Print.
Mehrez, Samia. The Literary Atlas of Cairo: One Hundred Years
on the Streets of the City. Cairo:
American University in Cairo Press, 2010.
Print
Radwan, Noha. "A Place for Fiction in the Historical
Archive." Critique: Critical Middle Eastern
Studies 17.1 (2008): 79-95. Print.