Tuesday, December 16, 2014

ما لم يقُله دارث فيدر


مسرحية من فصل واحد ومشهد واحد مستوحاة من سلسلة الأفلام الأمريكية الشهيرة "حرب النجوم"


إحدى دهاليز "نجمة الموت"- سفينة الفضاء الشهيرة التى يقودها قائد جيوش الإمبراطورية "دارث فيدر". يقف دارث فيدر متشحاً بالسواد من أعلاه حتى أخمص قدميه مُمسكاً بسيفه الضوئى. يدخُل "لوك سكاى ووكر"، الفارس المقاتل فى صفوف تحالف الثوار، شاهراً سيفه هو الآخر. ينخرط الاثنان فى حديث أخير قبل مباشرة معركتهم الفاصلة.

دارث فيدر: إنها فرصتك الأخيرة لكى تقلع عن تعنتك وتعصبك الأعمى؛ عليك أن تحتضن الجانب المظلم، أن تتقبل..


يبدو لوك مستثاراً بشدة من ما قاله دارث فيدر، فيندفع بحدة لمقاطعته

لوك: أبداً! من المُستحيل أن أوافقك على أىٍ مما قلته؛ كيف لى أن أنضم إلى الجانب المظلم؟ ألا يكفى كونه مظلماً كى أحيد عنه؟ بل إننى لا أتقبل وجوده أصلاً وسأحاربه بكل ما أوتيت.


تظهر علامات حنق على وجه دارث فيدر مبعثها حماقة ما يقوله محدثه ومقاطعته له، فيستطرد حديثه المنقطع


دارث فيدر: إدينى فرصة أتكلم! أنت هتاخد الكلام لوحدك؟


يصمت دارث فيدر قليلاً ليرى وقع كلامه على لوك الذى يصمت مأخوذاً بنبرة صوت دارث فيدر





دارث فيدر:
لدى كُل منا جانبه المظلم فى حياته- تلك الحزمة من الكلمات والأفعال والأشخاص أو حتى الأفكار المُجردة التى يقمعها ويُنكر وجودها إذا ما كانت بداخله، أو يتجنبها ويبتعد عنها قدر الإمكان بل قد يهاجمها ويحارب وجودها إذا ما كانت بخارجه. فبداخلنا كثيرٌ هو ما يقبع فى الجانب المظلم، ولعل أبرز ذلك الكثير هو المشاعر المكبوتة والرغبات الناشئة عن غرائز طبيعية جداً بداخلنا، ناهيك عن الأفكار. الأمثلة على ذلك كثيرة، كالحُب العاطفى المنظور إليه بشىء من الاستهجان فى مجتمع كمجتمعنا تحت دعاوى أخلاقية ودينية. أيضاً المُمارسة الجنسية كأحد أبسط الغرائز الإنسانية وأكثرها بديهية ولكنها هى الأخرى مكبوتة تحت شعارات العيب والحرام. ذلك بالإضافة إلى قائمة طويلة من الرغبات المقموعة المختلفة باختلاف الشخص.
أما الأفكار، فحدث ولا حرج، فالأسئلة الوجودية التى تنتاب كل منا تنجح خلطة التنشئة الاجتماعية بتركيبتها الحالية فى قمعها بحجة أنه "حرام نسأل الأسئلة ديه" أو أن سؤال مثل تلك الأسئلة لا طائل منه. الخروج عن المألوف فكرياً بشكل عام يحتل جزءاً كبيراً من الجانب المظلم، فعادة ما يقمع الإنسان أفكاره التى لا تتماشى مع المألوف من حوله كانت تلك الأفكار ذات طبيعة عقائدية كالدين، أو اجتماعية كرفض منظومة العائلة مثلاً أو غيرها من أفكار اجتماعية سائدة، أو سياسية. 
الجانب المظلم بخارجنا مكتظ هو الآخر بسُكانه، لا سيما من الأفكار والأشخاص-- أفكار الآخر الخارجى وشخوصه. تأمل للحظات قليلة محاولاً تذكر أكبر عدد من الأفكار أو الأشياء القادمة إليك من العالم الخارجى والتى تحرص على تصنيفها دائماً ضمن جانبك المظلم. غالباً ما ستنهمر على رأسك عشرات الأمثلة على ذلك، التى من المرجح بشدة أن يكون ضمنها: العلمانية، الليبرالية، اليهود، الكُفّار، المثليين جنسياً، المُلحدين، ذوات الـ"ليجينجز"، ذوات الطُرح،... إلخ. قد لا تحتوى قائمتك الخاصة على بعض هذه الأشياء، أو كُلها، ولكن المؤكد هو أنك تمتلك قائمة شبيهة تحتوى على عشرات- وربما مئات- الأشياء التى تحيلها إلى الجانب المظلم ومن ثم ترفضها وترفض وجودها وقد تحاربه حتى.
يتبقى بذلك أهم قاطنى الجانب المظلم ومفتاح تقبل واحتضان زملائه الآخرين من سكان الجانب المظلم: عبثية الحياة. فالحياة سؤال بلا إجابة صحيحة موضوعية، حيث تكثر الإجابات التى تدعى أنها هى وحدها صحيحة دون غيرها، بينما هى فى الواقع لا تمتلك أى استدلال منطقى يقف من وراءها لإثبات صحتها. هنا يمتلك سؤال الحياة إجابة مختلفة باختلاف منظور من يجيب عن السؤال،  ومن ثم يصبح سؤالاً عبثياً؛ فكل الإجابات صحيحة إذا ما نظرت إليها من منظورها. عادة ما نمنح هذا الساكن المهم إقامة دائمة فى الجانب المظلم، وذلك عندما نتمسك بإجابة واحدة فقط كإجابة صحيحة لسؤال الحياة.
يبقى السؤال الرئيس الذى بدأنا به ، لماذا يجب أن نحتضن الجانب المظلم-- أو على الأٌقل نتقبل وجوده؟ لأنه عادة ما يقبع فى الجانب المظلم- ظُلماً وبهتاناً- تشكيلة واسعة من الرغبات والغرائز الطبيعية التى سيسفر احتضانها وتقبل وجودها عن المزيد من السعادة؛ ومن ثم جودة أفضل للحياة، إضافة إلى مجموعة من الأفكار ذات الكثير من الوجاهة والمنطق السليم والتى تستحق بالتالى اعتناقها والدفاع عنها فى مقابل أفكار أخرى تستند إلى منطق فاسد.

 الأهم من هذا وذاك، وكما أسلفت الذكر، أن الحياة لا تمتلك جواباً صحيحاً واحداً بعينه. احتضان تلك الحقيقة- التى دائماً ما نحاول إنكارها والتغطية عليها؛ حيث يسحق تعدد المعانى ومن ثم العبثية واللامعنى آمالنا وتعلقنا بالحياة، الأمر الذى يخيفنا بشدة- سيجعلنا أكثر تسامحاً مع الجانب المظلم. فتلك الحقيقة تستطيع محو تقسيمة الجانب المظلم والغير مظلم بالكامل، وإذا لزم ذلك التقسيم، فربما يجدر التقسيم إلى جانب معروف (غير مظلم) وآخر مجهول (مظلم). ميكانيزم القيام بذلك يكون عن طريق إزالة تلك الحقيقة لكل ما يقف أمام احتضان الجانب المظلم من أخلاق أو دين أو قيود مجتمعية، حيث تصبح تلك الأشياء عديمة القيمة؛ ومن ثم نصبح أكثر تسامحاً وتقبلاً للجانب المظلم.
الخلاصة- يا لوك- أنه فى عالم بلا معنى واضح، تصبح الحياة أقصر من أن نضيعها فى صراع مع الجانب المظلم، ويصبح احتضان الجانب المظلم ضرورة للاستمتاع بحياة أفضل!




الأدب بين العاطفة والعقل فى تناوُل انتفاضة 1977




            تُعد انتفاضة 1977 من أبرز الأحداث التاريخية التى تناولها الأدب المصرى بشكل عام والروائى تحديداً بالكثير من الاهتمام البادى فى سعة حجم المخزون الأدبى المتوافر عن تلك الفترة. سعة هذا الحجم أثرت المكتبة العربية بمئات المشاهد والشخصيات المتنوعة التى تُجسد بصدق مشاعر الغضب العارمة التى انتابت جموع المصريين فى تلك الحقبة التاريخية الهامة من تاريخنا الحديث. برز هذا التنوع بالأساس من تنوع صانعى هذه الشخصيات والمشاهد واختلاف خلفياتهم، إضافةً إلى تنوُع من كتبوا عنهم: أسمائهم، أعمارهم، طبقاتهم الاحتماعية، أعمالهم، محال اقامتهم...إلخ. يظهر ذلك جلياً فى الروايات الثلاث التى تتناولهم هذه الورقة البحثية: (أوان القطاف) لمحمود الوردانى، (بيت الياسمين) لإبراهيم عبدالمجيد، وأخيراً (مالك الحزين) رائعة إبراهيم أصلان. وعلى الرغم من المخزون الأدبى الضخم المتوافر والمتنوع، وعلى عكس ما قد يطرأ على الذهن للوهلة الأولى، فقد أخفق الأدب الروائى المصرى فى التقاط الصورة الكاملة لوجدان المجتمع المصرى مُتبنياً منطق العاطفة، بينما نسى أو تناسى الجانب الآخر من منطق العقل فى التعامل مع الحدث.

            يروى محمود الوردانى أحداث 18 يناير 1977 على لسان (مُصطفى) المُراهق صاحب الأعوام الخمسة عشر، أو بالأحرى على لسان رأسه المقطوع- فى ابتكار روائى له دلالته السريالية. تتدفق الأحداث من منظور (مُصطفى) التلميذ ابن الطبقة الوُسطى الدُنيا. وُلد الوردانى فى حى شُبرا وعاش فى القاهرة، ومن ثم تجرى الأحداث فى شوارع القاهرة مُنتقلة فى سلاسة من المنيل إلى السيدة زينب وقسم شرطتها إلى الحلمية إلى ميدان التحرير وعابدين وقصر الرئاسة مُنتهية فى النهاية فى الجيزة حيث يقضى (مُصطفى) نحبه.

            تبدو علاقة (مُصطفى) وصديقيه بالمُظاهرات والشغب سطحية؛ حيث يقتربون منها لمجرد اللهو عوضاً عن رحلتهم المدرسية الملغية. سُرعان ما تتبدل السطحية وتتحول إلى مُشاركة فعالة فى أحداث التظاهُر وإن ابتعدت عن مواطن الخطر فيها. اللافت للنظر فى تصوير الوردانى لمشاركة شخصياته فى التظاهرات هو إظهاره لاهتراء المنطق الدافع لهم للمشاركة وعبثية مشاركتهم: "فوجدنا طلبة الخديوية الثانوية وسبيل أم عباس وتجارة الحلمية قد تجمعوا ومضوا يرددون: يا جيهان قولى الحق.. فورد (.....) والا لأ. ضحكت وأنا أبص عليهم لأجدهم جادين تماماً. بدت الدنيا أمامنا أنا وناجى وعمر وساعة، وها نحن نستطيع أن نفعل أى شىء. راح كل منا ينظر للآخر، ثم انفجرنا فى الضحك والتصفيق على، الأكف وانخرطنا نردد فى الهتاف." (أوان القطاف، 19) يُظهِر الاقتباس صُدفة مشاركة التلاميذ فى المظاهرات، وانجرافهم وراء شعاراتها البذيئة التى يضحكون منها فى أول الأمر- ربما لسخفها ولا معقوليتها- ولكنهم سرعان ما ينسلون ورائها مرددين شعاراتها بحثاً عن اللهو وهُم ضاحكين فيما يتطابق مع ما يقول به صاحب سيكولوجية الجماهير. كما يُلقى الاقتباس بظلال الشك على جدية مُشاركة التلاميذ فى أحداث 1977 ومدى وعيهم الحقيقى بكنه ما يغضبون من أجله.

            وفى اقتباس آخر يعرض (مُصطفى) لإحدى دوافعه الباطنة: "أما قسم شرطة السيدة زينب فقد وصل صيته إلينا فى المنيل، يا ويل من يقترب منه مُجرد اقتراب. حكى لنا زملاء فى المدرسة ما جرى لمعارفهم من جلد وضرب بل وقتل فى قسم السيدة." (أوان القطاف، 20) يظهر هُنا الخلط بين قمع وحشى من الشُرطة وحزمة قرارات اصلاح اقتصادى صعبة بعض الشىء، ما يُدلل مرة أخرى على سطحية دوافع قطاع غير ضئيل من المُتظاهرين.

            أما فيما يتعلق بتصوير أحداث التظاهُر والشغب، فيمكن القول بأن تصوير الوردانى لها كان فى غاية التفصيل الذى يؤكد على القيمة التأريخية الإيجابية للأدب. فقد جاء وصفه على درجة عالية من الدقة والاقناع. ربما كان ذلك لدأبه على إدراج الهتافات المُستخدمة آنذاك كما ظهر فى الاقتباس الأول، بالإضافة إلى تواجد أبطاله فى العاصمة حيث الحدث مُكبراً أكبر ما يكون مُقارنة بالأقاليم.  يظهر ذلك الوصف الدقيق فى مشاهد العُنف واشتباكات المتظاهرين بالشُرطة:
"فى ذلك اليوم الطويل كان أشجع ما رأيته هو هؤلاء الذين جعلوا يحاولون تحطيم أبواب قسم السيدة زينب ولم يخافوا من أى أحد. وعندما اندلع الرصاص من حولنا..." (أوان القطاف، 71)
تبدو جودة الوصف أيضاً فى مشهد نهب (أوبرج الأهرام) الذى سرعان ما يجلب للأذهان مصطلح (انتفاضة الحرامية):
"استطعت أن ألمح من بعيد أشباحاً لنسوة ورجال يهرولون حاملين أشياء جعلت تتبدى لى رويداً ونحن نجرى فى اتجاههم: مقاعد ومناضد ولافتات وصوراً بإطارات ضخمة، وكان البعض يحتضن أوانى وحللاً ضخمة وأكوبا وكؤساً زجاجية مثل التى نراها فى السينما." (أوان القطاف، 135)
نهب وتخريب الممتلكات العامة والخاصة فى أحداث ١٩٧٧ 

            النص الثانى يرصد فيه إبراهيم عبدالمجيد أحداث 18 يناير فى محيط من العمال فى أحد مصانع الإسكندرية، التجمع الحضرى الأكبر بعد العاصمة. يرجع ذلك بالتأكيد إلى خلفية عبدالمجيد العُمالية ومولده وحياته بالإسكندرية واللقب الأشهر له ككاتب الإسكندرية. كسابقتها، (أوان القطاف)، تأتى الأحداث فى (بيت الياسمين) فى صيغة المُتكلم على لسان (شجرة) العامل بأحد مصانع الاسكندرية. يُعانى (شجرة) من حالة اغتراب عن الوضع السياسى- وربما الاجتماعى أيضاً- المُحيط به. وعلى الرغم من اغترابه عن الوضع السياسى، يُشارك (شجرة) فى تظاهرات العُمال، فيما تصفه الباحثة (نُها رضوان) بأنها مُشاركة ارتجالية غير مسبوقة بأى تخطيط، حتى أن (شجرة) يذكر أنه لم يكُن يبالى حقاً بزيادة الأسعار. وعلى رغم من ذلك، استمرت مُشاركة (شجرة) فى المُظاهرة حتى النهاية، حتى أنه شارك فى الرد على هجوم قوات الأمن على المظاهرة. (Radwan, 88)

            مشاركة (شجرة) مع جموع العُمال كانت على أساس منطقى غير سليم، وإن كانت بُناءاً على مشاعر تعاطُف صادقة مع غضب زملائه. ما يُدلل مرة أخرى على تغليب العاطفة على العقل فى الأدب المتناول لأحداث 1977. يظهر هذا من الاقتباس الآتى: "لا بُد أن الحكومة أخطأت بالفعل وهى ترفع أسعار هذا العدد الكبير من السلع. لا يمكن أن يكون الخطأ عند هذه الحشود المُجيشة." (بيت الياسمين، 43) هُنا يتبدى أن مشاركة (شجرة) فى التظاهرات جاءت لمجرد اعتقاده بأن الجمع الأكبر من الناس لا يمكن أن يكون مخطئاً. بينما تؤكد قواعد المنطق أن الصواب والخطأ لا علاقة له بالعدد؛ فالعدد الأكبر من الناس ليس بالضرورة على صواب دائماً.
            أما فيما يتعلق بوصف أحداث التظاهُر والشغب، فقد جاء أيضاً على درجة عالية من التفصيل والدقة كسابقه، مُضيفاً لأدب هذه الحقبة التاريخية مشاهد الانتفاضة من جانب العُمال خارج العاصمة. كما قدّم أيضاً للأدب صورة الناشط العُمالى والقيادات العُمالية التى تتولى الحشد ونشر الهتافات. كما أبرز مُشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل فى المجتمع الصناعى؛ حينما تتظاهر للحصول على مزايا اقتصادية حيث أنها تعمل فى المصنع مثل الرجل: "وجدت نفسى يعتصرنى الضغط لأتقدم ناحية (سيد برشو). لحظات وصار نهر العمال الغاضب يغرق شارع المكس. تعطلت حركة السيارات والترام ونزل من بها. فُتحِت نوافذ البيوت وأطلت منها نساء وفتيات وأطفال. إنهم يرددون الهتاف. وأنا أهتف خلف (سيد برشو)."(بيت الياسمين، 43) كما أدرج هو الآخر العديد من الهتافات والشعارات الشعبية آنذاك فى نهاية نفس الصفحة. لم يُغفل عبدالمجيد أيضاً تصوير مشاهد التخريب والشغب والعُنف المتبادل بين قوات الأمن والمتظاهرين:
"تطير فى الجو أحجار ويتمدد الدخان الأزرق وتخترق أمطار حبات الرش المعدنية المنطلقة من بنادق الجنوجد ثيباً ولحماً... يحترق مطعم نصار ومصطفى درويش ومقهى اللوفر واتينيوس والمونسينور. من أين أتت كمية الحجارة التى قذفناها فوق الجنود المساكين؟" (بيت الياسمين، 47)
خطاب السلطة حذر من التخريب الذى أكد التاريخ الأدبى على حدوثه
            النص الثالث والأخير الذى تتناوله هذه الورقة بالتحليل هو (مالك الحزين) لإبراهيم أصلان، وهو أحد أهم ما كتب جيل الستينات، ويحتل- النص- مكاناً بين تصنيف أفضل مائة رواية عربية، كما اُقتبس المُخرج (داود عبدالسيد) عنه فيلم (الكيت كات)، والذى يعد بدوره أحد علامات السينما المصرية. وكما هو واضح، تدور الأحداث فى موطن إبراهيم أصلان ومنشأه: (الكيت كات) بـ(إمبابة).

            على عكس سابقيِّه، يروى إبراهيم أصلان الأحداث بواسطة راوٍ عليم بكل شىء، ولكنه يبتكر عدة أنساق خطابية ليصور الأحداث من خلال مجموعة من شخصياته الروائية فى ما اُعتُبِر تجديد أو ابتكار للدرجة التى دفعت الباحث المغربى (عبدالفتاح الجحمرى) أن يكتب دراسة مُختصة عن بحث الأنساق الخطابية فى رواية (مالك الحزين). فى هذه الدراسة عن السارد والصوت السردى فى (مالك الحزين)، يؤكد (الجحمرى) أن إبراهيم أصلان خلق واقعاً قصصياً غير خاضع للنمط أو النسق المألوف فى الرواية العربية، ويحاول متعمداً التخلص من كل ما هو نمطى ونسقى ومألوف فى بناء الرواية العربية بالقواعد المتعارف عليها. (Hajmari, 23) ويمكن رؤية ذلك الذى أثاره (الجحمرى) فى تعدد الأصوات الروائية بين (الشيخ حُسنى)، و(يوسف النجار)، و(الأسطى قدرى الانجليزى)، و(عم عُمران). ومع هذا التنوع، يجب التأكيد على أنه- أى التنوع- تم من خلال راوِ عليم بكل شىء مع اختلاف منظور روايته باختلاف الشخصيات التى يروى من خلالها، إضافة إلى المونولوجات المنتشرة على لسان (يوسف النجار):
"إمبابة، أيتّها السيدة الحزينة الفاجرة.. أنت سكران.. كلّا. أنت مجروح." (مالك الحزين، 163)

            تجرى الأحداث فى (الكيت كات) بـ(إمبابة) حيث المنطقة العشوائية التى لا تشبه (المنيل) حيث تسكن الطبقة الوسطى ولا هى منظمة كمصانع الاسكندرية حيث يعمل (شجرة). أبطال النص هم سكان المنطقة العشوائية المنتمين إلى طبقة من المُهمشين، والتى كانت ستعانى القسط الأكبر من المتاعب الاقتصادية جراء قرارات الاصلاح الاقتصادى التى أقرتها الحكومة عشية الأحداث. ومن ثم يعرض النص الاشتباكات العنيفة التى جرت فى منطقة (الكيت كات) والعُنف المتبادل بين قوات الأمن الحاشدة وسُكان المنطقة.
نرى أحداث التظاهر والشغب من عدة مناظير، أولها منظور (الشيخ حُسنى) الكفيف، فى تجديد ابتكارى لعملية الوصف من خلال جعلها من وجهة نظر- أو سمع وإحساس فى هذه الحالة- شخصية كفيفة:
"تشمم الهواء وتبين الرائحة الحادة، وسمع دبيب أقدام بعيدة، وراح يتقدم حتى توقف مرة أخرى. لقد ازدادت الرائحة الغريبة وحرقت أنفه، وارتفع صوت الأقدام التى تجرى على الأرض الموحلة حتى اقتربت من خلفه و أوشكت أن تدفعه أماها...حتى تبين وقع أقدام أخرى ثقيلة تضرب بقوة على إسفلت الميدان..." (مالك الحزين، 155)
المنظورالثانى هو منظور (الأسطى قدرى) الذى يشارك مع جموع المتجمهرين الذين يتعاونون على صد هجوم قوات الأمن.  يخرج الأسطى قدرى للشارع بعد أن استفزّته نظرات (أم عبده) للخروج مع باقى الرجال:
"وأدرك أنه الخروج أو االعار وانطلق كالقذيفة إلى الشارع وشمَّ رائحة مثل الشطَّة وهو يندفع مع الأولاد نحو الميدان...ويرى عساكر الحكومة وهى تطلق النار وتجرى أمام الأحجار التى تلاحقهم من كل ناحية... وهلوس بكلمات ماكبث..." (مالك الحزين، 157)

            ختاماً لهذه الورقة تجدر بنا الإشارة إلى أن تنوع خلفيات الكُتاب وهُوياتهم هم وشخصياتهم وتنوع طبقاتهم وأنماط علاقاتهم- أى الشخصيات- بأحداث 1977 لم تغير من كيفية تعامل الأدب المصرى الروائى الحديث مع الأحداث وإصراره على أخذ الجانب العاطفى إما إيماناً بأفكار بالية غير علمية- وهنا نختلف مع ما توصلت إليه الباحثة نُها رضوان فى ورقتها المُقتبسة هُنا- أو تزلفاً للجماهير الغاضبة أو إمعاناً فى احتكار الأدب من جانب النخبة اليسارية الثائرة دائماً الساخطة على كل شىء. ولم يأخذ أى نص منهم الجانب الآخر حيث العقل والنظريات العلمية والاقتصادية متناسين أن صانع السياسة الاقتصادية الاصلاحية الصعبة مصرىٌ هو الآخر. وهُنا يطرأ السؤال: متى ينضُج الأدب فى عالمنا العربى فى معالجته للقضايا الاقتصادية؟ ومتى تقوم النُخبة المثقفة بدور إيجابى فى إطلاع الجماهير على الحقائق الصعبة بدلاً من تمسكها بخطاب أدبى عاطفى رومانسى فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؟
 
الرئيس أنور السادات: عرّاب الإصلاح الاقتصادى فى مصر








المراجع

إبراهيم أصلان، مالك الحزين، دار الآداب، بيروت، 1992.
إبراهيم عبد المجيد، بيت الياسمين، الاسكندرية والفجالة، دار ومطابع المستقبل،  1993.
حمدي السكوت، الرواية العربية، ببلوغرافيا ومدخل نقدي (1865-1995)، القاهرة، قسم النشر بالجامعة الأمريكية، 2000.
. محمود الورداني، أوان القطاف، القاهرة، دار الهلال،  2002.

Allen, M. D. Ibrahim Abdel Meguid. the House of Jasmine. 87 Vol. University of Oklahoma,       2013.   Print.

Ḥajamrī, ʻAbd al-Fattāḥ. Takhayyul Al-hịkāyah: Bahṭh Fī Al-ansāq Al-khitạb̄īyah Li-riwāyat         Mālik Al-hạzīn Li-Ibrāhīm Asḷān. Cairo: al-Majlis al-Aʻlá lil-Thaqāfah, 1998. Print.

Hạmmād, Hạsan. Mālik Al-hạzīn: Dirāsah binyawīyah takwīnīyah. Cairo: H. ̣Hạmmād, 1994.        Print.

Johnson, Michelle, and Samia Mehrez. "Literary Cairo: A Conversation with Samia Mehrez."        World Literature Today 85.6 (2011): 12-5. Print.

Mehrez, Samia. The Literary Atlas of Cairo: One Hundred Years on the Streets of the City.          Cairo: American University in Cairo Press, 2010. Print

Radwan, Noha. "A Place for Fiction in the Historical Archive." Critique: Critical Middle   Eastern Studies 17.1 (2008): 79-95. Print.

Wednesday, August 20, 2014

الرواية العربية الفلسفية بين المطرقة و السندان



لطالما كنتُ شغوفاً بفنون السرد المختلفة منذ أن تعلمت القراءة، ولكن احتلت الرواية القسط الأكبر من هذا الشغف والاهتمام. ومن ثم تجمعت لدى حصيلة ليست بالقليلة نسبياً من الروايات المختلفة العربية منها و العالمية، و إن حظت الرواية العربية بنصيب الأسد فى هذه الحصيلة نظراً لاعتبارات الهُوية والمكان. من خلال تلك الحصيلة، صرتُ أكثر ادراكاً لما يميل إليه ذوقى الأدبى، فوجدت أنه يميل الى نوع من الروايات يخلط بين الفلسفة وقضايا المجتمع المختلفة. وبُحكم اعتبارات تاريخية قادت العالم العربى الى ما هو عليه الآن ثقافيا, فان أحد أهم القضايا الفلسفية الاجتماعية فى هذه المنطقة هى قضية الدين وما تستتبعه من عُقد مجتمعية تُشكل مادة خصبة لأى روائى كى يحبُك قصته حولها. وعلى الرُغم من عُقم بلادنا عن الكثير من أسباب الحضارة والتقدم، فإنها لم تعقم أن تنجب كُتاباً مبدعين مفكرين يتمتعون بالجرأة اللازمة لوخز المجتمع العربى فكريا فى محاولة لإيقاظه من التخاريف المُسيطرة عليه، وقد دفع أولئك المفكرون المبدعون ضريبة شجاعتهم فى رصد الواقع ونقده باهظاً نفيساً وصل فى أحيانٍ عدة إلى دمائهم.

الأمثلة كثيرة لروائيين تعرضوا للأذى بسبب ما يطرحوه من أفكار فى رواياتهم ابتداءا بعبقرية نجيب محفوظ فى أولاد حارتنا التى يقدم فيها نظرة رائعة لعلاقة الدين بالعلم فى العصر الحديث ولأيهُما يجب أن يُحسم الصراع من خلال تحليله لماهية الدين ومقصده بعيداً عن التخاريف والأساطير المسيطرة على المجتمع. ثم يوسف زيدان فى عزازيل حيث يكشف من خلال حبكة درامية قمة فى الإبداع والإمتاع عن تاريخ بديل تهمله المؤسسة الدينية عمدا كيلا تشوه صورة ما تدعو اليه من معتقدات وحتى لا تفقد ما تملكه من نفوذ على عقول البسطاء، حيث يكشف زيدان فى روايته العنف الدينى الذى اقترن بانتشار المسيحية فى مصر والشرق وعدائه للفلسفة والعلم مُمثلاً فى قتل هيباتيا وحرق مكتبة الاسكندرية. ثم أخيراً وليس آخراً، موضوع مقالى، حامد عبدالصمد، الروائى المصرى الشاب فى "وداعاً أيتها السماء".

من خلال مقال نقدى للكاتب محمد عبدالنبى عن الرواية وهو المقال المنشور فى موقع الكتابة الثقافى، نرى فى رواية عبدالصمد عملاً إبداعىاً جليلاً يتناول إحدى أعمق القضايا الفلسفية فى تاريخ الانسانية، و هى القضية الوجودية وعن معنى حياة الانسان. عبدالصمد يقتحم مجالاً خصباً للرواية لم يلجه قبله للأسف الكثير من الروائيين العرب. فالرواية تحكى بشكل أو بآخر عن قصة راويها المثقف المأزوم المُعرًّض لكافة أشكال التناقضات الاجتماعية والفكرية فى مجتمعنا، المُتمثلة فى عدة صور مجتمعية قبيحة بداية من والده إمام المسجد الذى يُحرِم ويلعن ما يقوم هو نفسه باقترافه، مروراً بكافة أشكال العفن الاجتماعى التى يعج بها مجتمعنا و التى لا يسعنى المكان للإسهاب فيها. تبدأ الرواية من سعى الكاتب للهجرة من مجتمع يتمرد عليه، مروراً بعرض أسباب هذا التمرد وبحث فى معضلات الوجود الانسانى وما يقترن بها بالضرورة من تفكير فى تابوهات دينية، انتهاءاً بجنون البطل فى رد فعل ميلودرامى لأزمته الوجودية.

المثير فى أمر "وداعا أيتها السماء" هو الاستقبال السلبى جدا والمُعادى لها فى المجتمع المصرى، خاصة فى السنة الماضية التى رسفت فيها مصر فى أغلال حُكم أصولى متطرف، حيثُ تم تكفير حامدعبدالصمد والأدهى من ذلك تم إهدار دمه لما عرضه من أفكار جريئة فى روايته طبقا لموقع نُصرة الإسلام. مما يُذكرنا بواقعة اغتيال نجيب محفوظ على يد نفس الجماعات المتخلفة. ثم نرى أبو اسحق الحوينى يصفه بالزنديق مضيفا: "ابتُليت هذه الأمة بعقول أبنائها", انتهائاً بمطالبة محمود شعبان، رجُل الدين الأزهرى الوسطى، بقتله على هواء قناة الحافظ الأصولية المتطرفة، انتهائاً بتعرُض عبدالصمد للاختطاف لمدة 3 أيام فى أواخر العام الماضى، وتم انقاذه نظراً لتدخُل السفارة الألمانية، حيث يتمتع عبدالصمد بالجنسية الألمانية بجانب جنسيته المصرية. التأمُل فى "وداعا أيتها السماء" وما تعرض له حامد عبدالصمد وأسلافه العظام من المفكرين المبدعين الروائيين من أذى وعلى رأسهم نجيب محفوظ يدفعنا الى السؤال مرة أخرى: إلى متى يظل المفكر العربى يرسف فى أغلال المتطرفين دينياً؟ ومتى يتحرر الفكر العربى من تخاريف هؤلاء؟
الأديب العالمى نجيب محفوظ يتلقى الرعاية بعد تعرضه لمحاولة اغتيال

Tuesday, June 17, 2014

أنا والناس

أكتُب إليكُم وإلى نفسى أولاً بعد سهرة قصيرة على إحدى قهاوى حيِّنا الجميل. ولكى أوضح ما تخلقه لدىّ القهوة من حالة مزاجية أقل ما توصف به أنها طيِّبة، فيكفينى القول أن القهوة مع "الصُحبة الحلوة" تُمثل لى ثانى أفضل مكان يُمكن لى أن أتواجد فيه بجسدى الهزيل. ليس هذا فحسب، فإنى أكتُب اليوم من جوف الليل، وحيداً هادئاً مُتأملاً، كعادتى مع مُدونتى الأثيرة.

ما بين كُرسى البلكونة الوحيد وكراسى القهوة المُتزاحمة.. ما بين ذاتى ورِفاق الصُحبة الحُلوة.. ما بين الفرد والمُجتمع.. ما بينى أنا والناس. هكذا قادتنى تأمُلات الليلة لأن أكتُب مقالى هذا مدفوعة بذلك التغيُر شديد التناقُض والسريع فى ليلتنا هذه من المجموع إلى الوحدة. تغيُر يوقظ بداخل العقل أفكاراً قد تكون مُزعجة، تماماً كما يوقظ التغيُر من الساخن إلى البارد بداخل الجسد ما قد يؤلمه.

لقد كنتُ بل ومازلتُ أيضاً من أشد المؤمنين بمنطق شعرة مُعاوية. وكم كُنت أتمنى أن لو كان هذا المنطق كافياً لإدارة علاقتى كفرد بمن حولى. ولكن وكعادة الواقع، فالأمر أكثر تعقيداً مما قد يبدو عليه. فكم من مرة قاموا بشد الشعرة، ولم يسعُنى سوى أن أشُدها أكثر تمسُكاً بموقفِ أو رأي ارتأيتُ فيه الصواب. وكم من مرة أرخوها، فأرخيتُها ترفُعاً عن وصالِ قد ينتقِص من ما تبقى عِندى من احترامٍ لوجودى وشعورٍ به.

وفى ظل هذا التناقُض الجلِى بين الإيمان بجدوى شىءِ ما والإكثار من القيام بنقيضه فى ذات الوقت، تدور إحدى أكبر المعارك بداخل ذاتى. الصراعُ المُتأجج بينى كإنسانٍ فرد موجود بذاته، وبينى كجُزء من مُجتمعٍ ما، موجود بالموجودات الأُخرى من حوله. أيُهما يُصدِّق على ما أعتنقه من فكر؟ وأيُهما يُقرر ما أنتهجه من مسلك؟ وأيُهما له اليد الطولى فى تصريف شُئون وجودى؟

ظلّت تلك الأسئلة تحوم فى رأسى سنوات مضت، ولا أستبعد أن تستمر فى حومها سنوات أُخرى قادمة. فالأمرُ يبدو مُعقداً للغاية بين ما جُبِلتُ عليه من فطرة الوجود مُمثلةً فى حُبٍ للذات ولحُرية الإيمان والعمل بما يُمليه عليَّ عقلى الفردى، وبين حتمية المُجتمع وما تُمارسه جماعات الموجودات- فى أغلبِها- من إرهاب للفرد وسلب لحُريته وكبت يدفعه لإنكار ذاته وفرديته.

يظهر حجم التعقيد بين خيارّى الفرد والمُجتمع إذا ما وضعنا فى الحُسبان حتمية الاجتماع بالنسبة لوجودى لأسباب لا أُدرك كنهها تحديداً. فأنا لا أستطيع الجزم إذا ما كانت تلك الحتمية ناشئة عن صفة خاصة بى اكتسبتُها أو أنها قد غُرِزت بداخلى بطريقة أو بأُخرى. حتمية أُعايشها، وكحال وجودى تماماً، لا أدرى مغزاها ولا منشأها ولكنى أُدرك فقط أنها موجودة!  كُل ما أُدركه أن احتضان تلك الحتمية يجعل مواجهة عبء الوجود أقل سُخفاً مما هو عليه. 

ولكن...
علىّ، بل أزعُم أنه على كُلٍ مِنّا أن يختار فى نهاية المطاف. وأكم من لحظات فارقة يوضع فيها المرء فى مفرق الطرق بين الواحد والمجموع بحيثُ لا يستطيع الفكاك من تحديد إجابة قاطعة. وأظُنّى أخيراً قد امتلكتُ إجابة لنفسى قد تبقى دليلاً لى لمُدة قد تطول أو تقصُر أو تعيشُ أبدا.  

أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
إذا لم يكُن من الاجتماع مفر، وإذا كان المُجتمع حتمية، فلا يسعُنى سوى أن أقول عن تلك الحتمية أنها شرٌ جم، ولكنها شرٌ لابُد منه. وخيرُ ذلك الشر هو المُجتمع الذى يقبل بتلك الرؤية ويحتضنها، فيصون فردية أعضاءه وتفرُّدهم، ويُكبِّل قواه التى ستقهر أفراده بالضرورة مالم تُكبَّل هى.

أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
نعم، قُلتُ سابقاً أن الاجتماع يُخفف من عبء الوجود. ولكن أىُّ مُجتمعٍ ذاك الذى قد يمنحنا هذا الأثر الإيجابى؟ قطعاً ليس هو المُجتمع الذى يُحدد لك مُعتقدات بعينها لتعتقد بها، ويُطاردك إذا ما قررت أن تؤمن بغيرها.. ليس هو المُجتمع الذى يُكبِّل أفكارك وما قد تطرحه من جديد غير مألوف.. ليس هو المُجتمع الذى ينهب نتاجَ عملِك كفرد كي لا يُخِّل بكينونته كمُجتمع فشل فى أن يجد إجابة لوجوده دون أن يعتدى على ما لأفراده.. ليس هو المُجتمع الذى يُخبرُك بما عليك أن تفعله بجسدك، بل ويُعاقبك إذا لم تُنصت له. باختصار، ليس هو المُجتمع الذى يفرض مفهومه للفضيلة على أفراده.

أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى..
فأنا الكافر.. أنا الكافر بكُلِ ما تؤمنون به.. أنا الذى يأبى أن يضع القيود على طبيعتِه.. أنا الذى يحتضن جُلَّ شهواته فى بساطة بشرية.. أنا الذى لا يخجل من أن يُمارس الحُبَ على طريقتِه..  أنا من سئمتُ تقديمَ القرابين نفاقاً لمُجتمعِكُم المريض..  أنا من ضاق بفضيلتكُم وتاق لرذيلتِكُم.. أنا من يحلُم بكوابيسِكُم.. أنا شيطانُ جمعكُم البائس.. أنا الذى يرى الوجود كما يحلو له أن يراه!

أختارُنى.. أختارُ ذَاَتْى.. أختارُ جمعاً أفضل من الموجودات.. أفضل وإن لم يكُن أكثر.. أختارُ مُجتمعاً ممن اختاروا أنفُسَهُم.



Friday, May 2, 2014

إيلامور

"واها يا سنّ التاسعة عشرة! إنّك نار تضطرم.. ولهب يندلع. إنّك تبُثّين الحياة والأنوثة فى الأحجار والمياه والألوان. إنّك لتعشقين الأوهام والأخيلة وتخالين الأحلام حقائق واقعة.. وتصلين ابنك عذاب الجحيم!" (بتصرُف) 

- عبثُ الأقدار، نجيب محفوظ.

وها هو ذا قد حقق هُدنة عاطفية لقلبه الحائر.

بتلك الكلمات أنهيتُ تدوينتى السابقة. ويا لعظيم أسفى حينما أدركتُ أن هُدنتى تلك قد انتهت هى الأُخرى بمجرد انتهائى من تدوين خبرها. فشل كاتب أراد حشو الفراغ بين عباراته بما يُطرب قراؤه أو ربما تفاؤل متصوف ساذج مبتدىء ظن أنه يمكنه ترويض قلبه. قد يكون هذان السببان ما دفعنى إلى كتابة تلك العبارة الخاطئة. فلم تكُن لا هُدنة ولا يحزنون. فأنّى لحديثى مع ذاتى أن يُسفر عن حل من أى نوع لأزمة تتوقف بالأساس على ذاتٍ أُخرى بخارجنا؟!


لم تكن حالة هُدنة إذاً, ولكنها كانت حالة من المكاشفة والمواجهة لهذا الشعور الغريب الطارد للسعادة, الداعى للألم والمُنغص للحياة. وقفة مع الذات للسؤال: هو فى إيه؟!


"حقاً إنّ الحُبّ شىء عظيم، عرف (ددف) الفنّ والحكمة والسيف. أم الحُبّ فهذا لغزٌ جديد."

- عبث الأقدار، نجيب محفوظ.


ساعتان أو يزيد فى ليلة باردة من ليالى الربيع، أهيمُ فى شوارع حيّنا وحدائقه الفسيحة. أجلس لأتأمل حركة السيارات القليلة العابرة فيما يذكرنى بقُدسية حركة الزمن واستمرارية الحياة. ثُم أجيب عن سؤالى لذاتى، إنها امرأة. تُجيبنى ذاتى فى استخفاف: وما الجديد فى امرأة؟ الجديد هو الحُبّ. يتحول استخفاف ذاتى إلى استنكار عندما تسألنى، وما هو الحُبّ أصلاً؟


تسألنى ما هو الحُبّ... للوهلة الأولى تطنّ "هابانيرا" من كارمن فى رأسى وأتذكر:

L'amour est un oiseau rebelle الحُبّ طائر ثائر
Que nul ne peut apprivoiser لا يُمكن لأحد أن يروضّه


L'amour est l'enfant de Bohême, الحُبّ طفلٌ غجّرى
Il n'a jamais, jamais connu de loi لم يعرف القانون أبداً

لم تؤثر ذكرى كارمن إلا موسيقياً من خلال وضع الخلفية الموسيقية لتفكيرى فى الحُبّ. فإنى لا أجرؤ أن أخاطب ذاتى شديدة الواقعية بما كتبه شخص رومانسى حالم كـ (بيزيه). كان على أن أفكر ملياً كى أجد ما يمكننى أن أواجه ذاتى به. ونظراً للمناخ الخصب الذى أحطتُ نفسى به، إضافة إلى استبطانى لما خلفته سيدة قلبى فى نفسى من خواطر شتى، وجدتُ ضالتى وإجابة سؤال ذاتى.

الحُبّ هو تلك الرغبة العارمة فى أن نتشارك الحياة مع شخص بعينه. الحُبّ هو نتيجة حتمية لتطورنا كبشر.من شىء بسيط أحادى الخلية يورث الحياة ذاتياً، إلى كائنات عبقرية عظيمة لا تورث الحياة فقط وإنما تورث ما هو أعمق من ذلك بكثير من فكر وخيال وفن. ومن ثم احتاجت هذه الكائنات إلى أن تنقسم إلى زوجين مختلفين متكاملين يحمل كل منهما جزء من الوجود الإنسانى، الذى لا يكتمل إلا بلقاء حامليّه. الحُبّ الذى نتحدث عنه إذاً هو، وبحُكم التطور، علاقة بين اثنين فقط. وهو أيضاً مُشاركة فى تحمُل عبء الوجود الإنسانى وأزمة الإنسان فى الوجود. بل إن الحُبّ ، وما يُصاحب محاولات الحصول عليه من متاعب، قد يمنح وجود الإنسان معنى يُساهم فى حل أزمته الوجودية.

يُمكن أن نُحِب أكثر من مرة. فالحياة ما هى إلا القليل من الوقت، ومادام من المُمكن تقسيم الوقت إلى أوقات أصغر، فكذلك يُمكن تقسيم الحياة إلى حيوات أصغر. تلك الحيوات قد نختار أن نتشاركها مع نفس الشخص (نُحبه)، وقد نختار فى جزء منها أن نتشاركه مع شخص ما (نُحبه) وفى جزء آخر مع شخص آخر (نُحبه).

نجحتُ فى إقناع ذاتى وانتزاع استنكارها المؤلِم. فى تعاطُف تلك المرة، سألتنى ذاتى، ما الذى يجعلنا نُحب شخصاً ما دون شخصٍ آخر؟ ولأنى، كما يقولون، صاحب ناب أزرق، فلم يفُتنى أن أصاحب إجابتى لذاتى على هذا السؤال بالكثير من الاستنكار! 

إذا ما كُنتَ ستشارك وجود آخر فى حياتك، فكيف لك ألا تُفاضل بين شخص وشخص؟ تختلف الطباع والأفكار والأهواء والاهتمامات ومن ثم الشخصيات. بالتأكيد لا يكفى الجانب البيولوجى لإحداث الحُبّ بين شخصين. ولا يكفى توافُر الصداقة والاهتمامات المُشتركة لإحداث الحُبّ.وإنما يحدُث الحُبّ تجاه شخص يتوافر فيه هذا الخليط العبقرى من الصفات الظاهرة والباطنة التى يتوق إليها كُل منا فى شريكه ويحفظها لا إرادياً فى ذلك المكان أسفل قلبه.

دائماً ما لا نجد الشخص المثالى الذى يتمتع بخليط الصفات العبقرى كاملاً كما هو. ولكننا نقع فى الحُبّ كُلما عثرنا على شخص يقترب من الخليط. لا يعنى ذلك أننا قد لا نتشارك حياتنا على الإطلاق مع أشخاص فى غاية البُعد عن خليطنا المثالى. ولكن كُلما كان الشخص، الذى نشعر بالحُبّ تجاهه، أقرب من هذا الخليط المثالى، كُلما كان الحُبّ أصدق وأقوى، وكُلما كان أعنف وأكثر إيلاماً أو إسعاداً لنا (على حسب ما يُسفِر عنه الحُبّ من لقاء أو جفاء). 

"الحُبّ كالموت تسمع عنه كل حين خبراً ولكنك لا تعرفه إلا إذا حضر. وهو قوة طاغية، يلتهم فريسته، يسلُبه أى قوة دفاع، يطمس عقله وإدراكه، يصُب الجنون فى جوفه حتى يطفح به، إنه العذاب والسرور اللانهائى."

- الحُبّ فوق هضبة الهرم، نجيب محفوظ.

فى تلك اللحظة، كنتُ قد ظفرتُ بالتعاطُف التام من ذاتى تجاه أزمتى العاطفية، ووجدتُ الطريقَ مُمهدةً لكى أحكى عما يعصف بقلبى. من أين أبدأ؟ لأبدأ من حيثُ انتهى الأمر! فكيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة شاركتنى الحديث لساعات طُوال دون ملل، حيثُ كُنا نتحدث فيما يشغل بالينا من أمور السياسة والإقتصاد والموسيقى والأدب والمجتمع. كيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة يشغل بالها ما يشغل بالى من هُراء. كيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة تتطرّق إلى أحاديثها بلسان عذب، بل شديد العذوبة، وإن كنتُ لا أفقهه بعد. كيف لى ألا أقع فى حُبّ امرأةٍ جميلة تستأثر بكُلِ تلك الصفات من خليطى العبقرى!

إننى الآن أرسف فى أغلال الحُبّ، هائماً على وجهى فى ظلام الحيرة، لا أدرى أخيرٌ أجنى من وراءِ حُبّى أم خيبة ُ أملٍ. أستمع إلى موسيقى الحُبّ، أستمع لأول مرة لأم كلثوم التى طالما رأيتُ فيها سُخفاً موسيقياً اختفى بمجرد أن أصابنى الحُبّ، وأتغنى بالأشعار وأنا الفيلسوف الكاره للشُعراء، وتُمسك يدى دوماً بكتابٍ يُدعى, The Philosophy of Love. 

"قد نضيقُ بالحُبّ إذا وُجِد, ولكن شَدَّ ما نفتقده إذا ذهب."

- السُكرية, نجيب محفوظ.





Sunday, April 20, 2014

المشَّائون الجُدد: عن المشى الفلسفى

منذُ أن انتقلت إلى مدينة العبور (أى ما يُقارب الثمان سنوات)، انضم المشى إلى قائمتى لمُحفزات التفكير و التأمُل. فشتان ما بين صخب شارع الهرم و عوادم سياراته التى لا تنتهى متدفقة ليل نهار، والعبور الجميلة الجديدة التى لم تُصب بعد بجرعات مؤثرة من الفيروس الحضارى المسمى بالمصريين. حتى أنى أتذكر أنه حينما ذهبت للمرة الأولى إلى أوروبا منذ سنوات، تم تحذيرى بشدة من الاكتئاب ومقارنة الشوارع والنظام والحياة هُنا وهُناك. ولكنى حينما حان موعد عودتى، كُنت شديد الاشتياق للعودة إلى بيتى حيث يقبع هادئاً خلف الشجرات الأربع والحديقة الصغيرة من أمامه، فى شارعه شديد الاتساع. ولم أشعر باكتئاب ولا يحزنون، فأنا لا أعرف من هذا البلد القبيح سوى بيتنا فى حيه الجميل، وأتحاشى بقدر الإمكان أن أهبط إلى مقلب الزبالة الكبير المدعو بالقاهرة. 

المُهم يعنى أن حيَّنا يُمثل بيئة خصبة للمشى الفلسفى والتأمُل. فكرتُ مرة أن المشى عندنا يشبه المشى ليلاً على البحر. ولكن بما أنى خبيرٌ بالأمرين، فأستطيع أن أُجزم أن المشى عندنا أحلى نظراً للشعور بالطمأنينة لأأنك فى إطار حدود بيتك، ذلك الشعور بالدفء والأمان النفسى أنك فى مكان تعرفه جيداً ولا تشعُر فيه بالغُربة اطلاقاً. وبالتالى فإن أفضل مكان للمشى الفلسفى هو أن تمشى على البحر حينما يكونُ بيتك بجانبه، وهو ما يُبرر رغبتى منذ زمن أن أستقر فى مدينة ساحلية.

بدأ الموضوع حينما كنتُ أذهب مع جارين صديقين هُم أيضاً من زملاء الدراسة (٣ X ١) إلى المسجد القريب لأداء صلاة العشاء كُل يوم. كان ذلك يُمثل طريقة جيدة للتحايُل على المذاكرة وتضييع الوقت من خلال التسامُر والتمشية لبعض الوقت. وفى الكثير من الأحيان كان صديقىَّ يمتنعان عن الذهاب معى إلى الصلاة، فأجدنى مُتكاسلاً أنا أيضاً عن الذهاب نظراً لغياب الدافع الحقيقى وراء الذهاب إلى الصلاة. ولكن أمام تعليقات ونظرات السيد الوالد المهووس دينياً كأغلب المصريين، كنتُ أجد نفسى مُضطراً إلى الذهاب بدون العيال أصحابى لأداء الصلاة عشان "أنت بتصلى عشان ربنا مش عشان صُحابك يا أحمد".

كوسيلة لإظهار التزمُر والغضب منه، كُنت امتنع عن الذهاب مع أبى فى سيارته وأسلك نفس الطريق الذى أسلكه مع أصدقائى، وأمشى. فى طريق العودة كُنت أتوق إلى من يُسامرنى فى غياب أصدقائى، فلم أجد سوى نفسى أُحادثها. وكنتُ قد أعتدت حديث النفس قبلها، حيث أحادث نفسى كل ليلة مستشيراً إياها فى شئون ما ينتظرنا فى الغد. وبالتالى فلم يكن غريباً عليا أن أُحدث نفسى وأُفكر بصوت عالى معها ونحن نمشى فى الليل عائدين إلى المنزل.

كُنا نتكلم فى كُل شىء، فكر وفلسفة وسياسة ومجتمع ومُستقبل ينتظرنا وعلاقات اجتماعية مضطربة وعلاقات عاطفية أكثر اضطراباً. كُنا نحلل معاً كتاب حلو قريناه أو سبب حُبنا لأغنية ما أو نناقش أكثر ما يجذبنا فى المرأة. أى باختصار وكما قلتُ فى البداية: كُل شىء! وكانت تلك الأُمسيات مُثمرة جداً على الجانب الفكرى. كما أنها كانت السبب أيضاً فى حل الكثير من المشكلات التى نوقشت خلالها. كان من الطبيعى إذاً أن أُدمن ذلك المشى الفلسفى، خاصةً وقد أثبت براعته كمُسكن لأزماتى الوجودية المُتكررة التى لا ترحم. فكم من مرة ساهم المشى لساعة فى الليل فى إحداث توافق وسلام نفسى يُهىء لصُنع دستور وجودى لذاتى يُبين لها إتجاهاً للاستمرار.

استمر الموضوع معى ولكنه تطور ليُصبح حديثاً لكُل ما هو موجود. فكنتُ أحادث القمر حينما يكون مُطلاً، وكُنت أحادث السماء دائماً لأنها موجودة على طول، ومن خلال السماء كُنت أحادث القوى الإلهية وأُشاركها أفكارى وأحياناً أتوسل إليها أن تمنحنى نجاحاً ما فى حياتى الأكاديمية أو أن تُغدق عليا برضا امرأة جميلة أتوقُ لها. وكانت السماء تُجيب توسلاتى رغم أنى لم أكن أصحُبها برياء أو نفاق ولا تزلُف زائف كما يفعل المتدينون. فدائماً ما كنتُ أتصور علاقتى بالإله كعلاقة تلميذ بمُعلمه لا عبد بسيده، فهو الوجود الأول والوجود الأعظم وأنا الوجود الضائع التائه الذى يستمد معنى لوجوده من وجود إلهه.

المُهم أننى ازددتُ تمسُكاً بعادتى فى المشى الفلسفى، خاصة وبعد أن أخبرتنى صديقة مستها نفس لسعة الجنون التى مستنى من قبل بأن ما أفعله يُشبه ما كان يفعله أرسطو وتلاميذه. فقد كانت عادة أرسطو أن يمشى وهو يحاضر تلاميذه وبالطبع كانوا يمشون ورائه فى أروقة الأكاديمية، ومن هُنا جائت تسمية مدرسة تلاميذ أرسطو فى الفلسفة بمدرسة المشَّائين- Peripatetic School.

 أرسطو! إنه الحلم! ألفىُ عام من الهيمنة الفكرية! 
سياسة واجتماع وعلم نفس وطبيعة وميتافيزيقا وبالطبع فلسفة. الشُكر لكِ أيتُها القوى الإلهية الرحيمة العليمة بما يتوق إليه تلميذُكِ. الشُكر لكِ أن اقتدتيه إلى خيرُ عادة. سيمشى ويمشى ويمشى ويمشى مُتأملاً الوجودَ بكل ما فيه. وها هو ذا قد مشى اليوم فى مُنتصف ليلة يومٍ حار لم تكن (لحُسن الحظ) هى مثله. وها هو ذا قد حققَ سلاماً وجودياً جديداً لوجوده المُعذب وهُدنة عاطفية لقلبه الحائر وسعادةُ هى جُل ما يتوق إليه. وخبرُ ذلك فى تدوينة قادمة إن شائت القوى الإلهية.

Thursday, April 10, 2014

اكتُب يا هيبا

اكتب يا هيبا، أريدك أن تكتب، اكتب كأنك تعترف، وأكملْ ما كنتَ تحكيه، كله.
اكتب يا هيبا ، فمن يكتب لن يموت أبداً.
اكتب يا هيبا ، فمن يكتب لن يموت أبداً.
اكتب يا هيبا ، فمن يكتب لن يموت أبداً.

حينما شعرت بثقل ما يحمله عقلى المحدود من أفكار عقلانية وحده، بل و أيضاً وجود و ضخامة ما كنت أظنه منعدم من ما قد أسميه "خواطر" غير عقلانية اتضح لى مع التجربة أنها شديدة التأثير فى مسار وجودى الذى لازلت حتى الآن لا أعيه تماماً، و مع تعقد هذه الأفكار و اتساع تأثير تلك الخواطر، لم أجد أمامى و أمام عقلى موطن تلك الأفكار و ذاتى المسكينة المكتظة بتلك الخواطر بُداً سوى أن أكتب.

و كعادة الموجودات المشابهة لى و الموجودة بكثرة من حولى، كان ينبغى لى أولاً قبل أن أكتب متخلصاً من همومى العقلية المعنوية المختلفة أن أُتوج كتاباتى بعنوان ما و يا حبذا لو كان مُعبراً عن كل ما يرقد تحته من أفكار و خواطر.

عبثٌ! هو قمة العبث أن يظن ظانٌ أن بضعة كلمات ،مهما كانت، تستطيع أن تشمل ما أنتوى تدوينه من فوضى فكرية و هباء عاطفى، و لكنى ها أنذا مرة أخرى ضمن مرات عديدة قد لا تنتهى أخضع لما اجتمعت اليه الموجودات الشبيهة لى من حولى. سأضع العنوان، سأتوج تخاريفى!

 يا تُرى ماذا أسميها؟ ماذا أسميها يا تُرى؟ أحمد مجدى ربما؟ لا لا، ربما يجب أن أُضيف لقب عائلتى شرف الدين؟ ربما أضيف "كتابات" أو "مخطوطات" أو ربما "أسرار"؟ لحظة! ماذا دهاك يا رجُل؟! قطعاً تستطيع أن تقدم أفضل من ذلك!  

و هكذا استغرقتنى الحيرة، ليس طويلاً، و كعادتى مع مسائل وجودى المختلفة، أعرضها بشكل مبدئى على عقلى أولاً، ثم أتركها الى حين أن يفاجأنى صوت اللاوعى من داخل جمجمتى بحل عبقرى لمسألة عرضتها على العقل فى وقت مضى. أوحى إلىَّ اللاوعى برواية قرأتها و لم أتجاوز الرابعة عشر. و قد كان لا وعيى الحبيب أكثر تفصيلاً حيثُ قادنى إلى جملة بذاتها لا أدرى حقاً كيف علقت بذهنى و تذكرتها بعد أكثر من خمس سنوات:

"اكتُب يا هيبا، فمن يكتُب لن يموت".

هكذا تذكرها اللاوعى العبقرى، و أكملها فيما بعد محرك البحث الشهير على الانترنت. و ما كان من الوعى ذاته الا أن أثنى جزيل الثناء على عبقرية صاحبه و نقيضه فى الوقت ذاته ثم أخذ بزمام المبادرة و تبنى مقترح اللاوعى. لقد كان خياره فى الواقع مُبرراً جداً، حيث أنه بات يعانى من أزمة وجودية حادة فى الآونة الأخيرة، جذورها قد تمتد لما يقارب العامين أو الثلاثة و جذور تلك الجذور مُمتدة إلى ما هو حتى أبعد من ذلك. و من ثم كان من الطبيعى أن يرفض كل عنوان يربطه بوجود لا يدركه هو تماما و لا يستطيع أن يجزم برغبته فى إنساب تلك الكتابات لهذا الوجود الغير مفهوم. 

إنه هنا ليكتُب! و ليكتُب فقط! و من ثم فعنوان عن الكتابة، لا سيما و ان كان مقترناً بوجود مُعذب مثله فى سبيل ادراك وجوده، هو أقرب ما قد يعبر عما ستميل إليه كلماته. 
و هكذا كانت: اكتب يا هيبا