Wednesday, May 4, 2016

عن ذات الشعر الأحمر


جميلةٌ هى تلك اللحظات الأولى التى يُسدل فيها كلا الطرفين شيئًا قليلًا من دفاعاته على استحياء ذى تكلفٍ مفضوح كى يبعث بإشارات الأُلفة الأولي إلى خصمه. نعم، أقول خصمه لأنها رُبما أكثر معاركنا إشكاليةً من حيث اجتماع ضراوتها مع حميمية مناوشاتها التى تدغدغ أعماقنا بما تهواه أنفسنا الفاقدة للرُشد. نتذكر الآخر و لحظاته القليلة الحُلوة معنا فلا نملك سوى أن ترتسم على وجوهنا ابتسامة بلهاء هى أصدق ما يُعبر عن وعثاء الحُب بما يُسقطه من خبل حتى على رؤوس أعقل ضحاياه. ليس هذا ما نتذكره فحسب، بل لا نلبث أن تطرُق ألبابنا الحالمة خواطر قاسية عن ما قد نتكبد من مشقة و ما قد يُلاقينا من أهوال فى محاولة الظفر . أهوال لا يمكن للمرء أن يتحسّب لها لأنه ببساطة ليس له من سبيل حتى لإدارك كنهها، أو كما حذرتنى صديقتى الفرنسية : "تسير الأمور على ما يُرام، ثم تقول شيئًا ما أو يحدُث شيئًا آخر فيقلب كُل شىء رأسًا على عقب."

و لحُسن الطالع، فإن هذه السطور تأتى بعد أن أُثخِن صاحبها بكثير من الجراح تكبدها بعد أن مُنّى بهزائم عدة كان بطلها الأبرز دون منازع  الجموح الأنثوى الذى يأبى إلّا أن ينشُز على المنطق؛ و من ثم فلا عجب ولا أمل: لا عجب من ما قالته صديقتى و لا أمل فى أكثر من تلك اللحظات التى امتلكتها حقًا ولا سبيل لأحدهم و لو كان أعتى مردة إبليس نفسه فى أن يسلُبها منى. و ها أنا ذا أكتب مُحتفيًا بتلك اللحظات التى لا أملك سواها.

***
تُحملق فىّ بمُقلتيها الزرقاويتين الواسعتين و يكشف انقباض أساريرها عن ابتسامة مكبوتة. إنّه منتصف ليلة باردة أُخرى كعادة ليال هذه المدينة الجوفاء و لم يعُد فى صدرى بقية من سذاجة الصبا التى قد تنسُج حول نظرات ثاقبة كتلك ضروبًا من الحكاوى و الأساطير. لم أُعرها اهتمامًا، فربما تتبين ملامح قد رأتها قبل سويعات قليلة فى قاعة درس. يُذيب أحد رفقائها ما تسببت به النظرات الزرقاء من جليد مُستعينة فى ذلك بأجواء شيكاجو اللعينة: "كيف حالُك يا صاح؟".. أُجيبه و لازلت مخمورًا بأنغام كورساكوف التى تحمل فى طياتها عبق الماضى السحيق من ساحات المُلك ببغداد: "فى خير حال، فقد عُدت لتوّى من حفل بهيج.".. يستطرد الصديق: "جميل! أى حفل ذلك؟".. أخبره و أنا أفكّر أنه رُبما هنالك ما يستحق البقاء فى هذه المدينة الباردة: "حفل الأوركسترا السيمفونى.. لقد لعبوا للتو أفضل سيمفونياتى.".. ينبرى الصديق فى رشاقة ليؤدى دوره الأخير فى مشهد الليلة من مسرحيتنا تلك: "و أى سيمفونية هى يا تُرى؟".. أُخبره؛ فتدخُل بطلتنا بنصّها الأول مُحتفظة بقوة نظراتها: "إنها سيمفونيتى المُفضلة أنا أيضًا." نجحت فى انتزاع اهتمامى من عالمه الرواقى الذى يرفُض أن يعلو بآماله دون أن يملُك من دونها سُلمًا يمتطيه للهاوية آمنًا ليكفى نفسه سقطات مروعة لا طاقة له بها فى طقس بارد كهذا. لازال شبح شوبنهاور بشعره الأشعث عالقًا فى مؤخرة رأسى فيدفعها بروحه الشاكّة أبدًا ألّا يقبل تحية ذات الشعر الأحمر بلّا تحفُظ، فاسألها: "حقًا؟ و لم هى المُفضلة لكِ؟".. تُباغَت بسؤالى فترُد مُحركة يديها بعشوائية فى الفضاء: "لا أدرى.. فقط الموسيقى.. جميلة جدًا.".. تأتى حافلتى التى كنت أنتظرها، و تخرج بطلتنا إلى ضالتها هى أيضًا، ثم يهبط الليل بجُل سواده فيُسدل الستار و يذهب كُلُ إلى حال سبيله.


***
مخمورٌ أنا هذه الليلة  أيضًا و يبدو أن صاحبتنا لا يروقها سوى أن تزورنى على حالى هذه. عادت لتوِّها من حفل صاخب انعكست آثاره على ردائها الكاشف عن بياض برّاق لا شيّة فيه. لا أذكر كيف اجتذبتها إلى حيث جلسنا سوية على حافة طاولة هى الآن أحبُ بُقعة لىّ فى تلك الساحة الكئيبة من مسكنى الحالى و مسكنها. رُبما كانت ابتسامة بلهاء قد تطايرت من بين ثنيات ثغرى. و لا أدرى لم أبينا أن نركن إلى مقعدين من المقاعد المُتناثرة، رُبما حُبب إلينا ذلك ساعتها أو كانت هى سطوة الخمر التى أرادت بنا اقترابًا لا يحول دونه شىء على سطح واحد. نتجاذب أطراف الحديث العذب المُتضمن و لأول مرة حديثُ الأسماء . تتعثر فى اسمى كعادة باقى الغُرباء بينما استمتع أنا بتعثُرها هذا. تسألنى سؤالًا فأجيب فتمد إلّى يدها لنحتفي سويًا بإحدى إيماءات القرن الحادى و العشرين الشهيرة ضاحكين معًا. حديثها عذب و يزيده مُحياها الوضىء  عذوبةً و بهاءًا فاستطرد غير مباليًا مستعينًا بديونيسوس العظيم الذى أحلل عُقدة من لسانى فاسألها ان كانت حقًا تُحب السيمفونية إيّاها. لازال ديونيسوس يُقاتل إلى جانبى دافعًا بأعتى مجانيقه لتدُك حصون فاتنة ويسكونسين، فتُرفع الرايات البيضاء و تُخبرنى بأنها كانت تكذُب فحسب. أحاول أن أبدورحيمًا سعيًا وراء مزيد من الجاذبية كغازٍ مُحتمل، فلا أكترث كثيرًا لنصرٍ ساحق قد أُحرِز لتوه، فأبقى رابط الجأش مُنتظرًا فى ثبات لنصر مُكتمل مُتأسيًا فى ذلك بغزوة أُحُد [LOL]. هذا و يجدُر بالذكر هُنا أن نلهج ببعض المعارف العسكرية ثقيلة الظل و التى لا بُد منها قبل أن نستفيض فى حديث ما جرى فى ليلتها مع ذات الشعر الأحمر: من المعروف أيُّها السادة و المُتفّق عليه أيضًا فى كافة أسانيد الحرب المختلفة و كُتبها المُعتمدة أن ديونيسوس لا يُمكِّن مليكه سوى من إنتصارات تكتيكية قصيرة المدى قامتها و قوامُها المُباغتة للخصم. أمّا على المدى الطويل، فالإله الحَابِر لا يملُك من أمر ساحة القتال شيئًا، و عليه، فلم تلبث صاحبتنا سوى نصف دقيقة أو أكثرُ قليلًا حتى تنبهت إلى ما قد ساءها لتوِه و أسرعت تُلملمُ ما قد تعوزه فى ما سيجِّدُ حتمًا من معارك أُخرى. تُحملق فىّ فجأةً و تخبرنى بحتمية ذهابها الآن. أودعُها بينما ترتسم على عينيّ معالم استياء واضح يختبىء وراءها فى جوفى قدرًا من السرور اللانهائى الذى لا يولده سوى الحُب.


***

"احترس! فالصهباوات تلتهمن أرواح رجالهن" — هكذا قالها صديقى فى ليلة جُمعة دافئة نسبيًا بينما نجول الشوارع الرحبة لحيِّنا الكئيب و نتجاذب أطراف الأحاديث التقليدية للرجال، و التى لا تُغنى عنها نساء العالم مُجتمعة-؛ أو كما قال خير من قال فى كتابِه: "بروز بيفور هوز."
   

  
  

No comments:

Post a Comment